منجي المازني
لاحظ المراقبون أنّ الحملة الانتخابية الرئاسية بدأت بقوّة وتشويق بما يشبه مقابلات المصارعة بين المتصارعين من الوزن الثقيل. حيث دخل في السباق 26 مترشّحا. وزاد هذه الحملة تشويقا دخول نائب رئيس مجلس النواب على حلبة المصارعة بما أضفى عليها نكهة خاصّة. وبما جعل التكهّن بنتيجة السباق أمرا عسيرا ويكاد يكون مستحيلا. وفي ظلّ فوضى الإعلام وارتباط أغلب المشهد الإعلامي بلوبيات المال والفساد، وفي ظلّ شعبوية أغلب المرشّحين فإنّه بات من الصّعب على أغلب النّاخبين التمييز بين المرشّحين وتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود للحقيقة. فما هو مطلوب من الناخبين أن يدركوه ويعرفوه عن المرشّحين لكي يأسّسوا قراراتهم بناءا عليه ؟
وفق تقديري فإنّه من الأرجح ومن الأفضل أن يكون المترشّح بالأساس سياسيا وصاحب مواقف ونضالات سياسية. ذلك أنّ المهام الرئاسية هي عمل سياسي بامتياز لا يمكن أن يمارسه بنجاح إلاّ من كانت له سوابق في العمل السياسي. ليس هذا فقط بل من الأفضل أيضا أن لا يكون المترشّح معاديا لهويّة الشعب حتّى لا يهدر مدّته النيابية في اقتراح مشاريع قوانين في تعارض تام مع هوية الناخبين. ويستحسن في تقديري أن يكون المترشّح مسنودا ومدعوما من حزب قوي على السّاحة السياسية. ذلك أنّه في غياب هذا الدّعم لن يكون بمقدور المترشّح النجاح والعبور على الأقل للدور الثاني ولو أوتي جوامع الكلم وجوامع الحكمة. وحتّى وإن نجح في اعتلاء كرسي الرئاسة فلن يكون بمقدوره التأثير في مجريات الأمور لأنّ صلاحيات السلطة التنفيذية تحوّلت إلى رئاسة الحكومة. لذلك ننتظر أن تكون الانتخابات الرئاسية امتحان تجريبي أو بروفة وعملية سبر آراء للانتخابات التشريعية.
واللاّفت أنّ أغلب المرشّحين تسابقوا على تقديم مشاريع عمل ترمي لتحريك دواليب الاقتصاد والتنمية. غير أنّ ذلك غير كاف في غياب إرادة حقيقية لمحاربة الفساد في كل مفاصل الدولة وأجهزتها. فمشاريع الإقلاع الاقتصادي والحضاري باتت معروفة بدقّة متناهية لدى الخبراء والمختصّين والأحزاب بل لدى عامّة النّاس. والحلّ الأمثل لا يتمثّل في التعهّد بإنجاز مشاريع بقدر ما يتمثّل في بلورة طريقة لاجتثاث الفساد لتمهيد الطريق لإنجاز المشاريع الكبرى وتحريك التنمية. فكلّ مجهود في سبيل إرساء منوال تنموي حقيقي في غياب تصوّر واضح لاجتثاث الفساد هو نوع من الحرث في الماء أو هو بمثابة تشييد بناية ضخمة بدون أساسات أو قواعد ولا يعلم متى تنهار على رؤوس أصحابها وتميتهم على بكرة أبيهم. فلقد نفّذت مشاريع في عهد المخلوع. ولكنّ الفساد ذهب بالأرباح ورأس المال. فعلى سبيل الذكر لا الحصر : لو استرجعنا الأموال التي نهبها المخلوع بن علي دون سواه والتي تفوق المائة ألف مليار من المليمات (بحسب تقارير موثّقة وبشهادة صهره سليم شيبوب) لتخلّصنا من كلّ ديوننا ولبقي لنا ما يكفي من الأموال لإنجاز مشاريع وامتصاص البطالة واسترجاع الدينار لعافيته. فالسؤال الذي يطرح إذن: كيف يمكن اجتثاث الفساد من البلاد ؟
من المعلوم أنّ الاستبداد لم يرحل إلاّ بعد أن ترك مكانه للفساد الذي ظهر في البلاد بما كسبت أيدي لوبيات المال والأعمال والإعلام الوريث الشرعي للاستبداد. هذه اللوبيات لم ترم المنديل. واستماتت في الدفاع عن مصالحها وثرواتها التي تحصّلت عليها بفضل الاستبداد وأعادت التموقع من جديد من خلال إعادة الانخراط في أحزاب أو تشكيل أحزاب جديدة تتحدّث باسمها وترفع لوائها كحزب “المكرونة” مثلا. وما إن تموقعت هذه اللوبيات في المشهد من جديد حتّى قدّمت نفسها كمدافعة عن الإصلاح وكمناصرة لقضايا المستضعفين والفقراء والمهمّشين.
ومن المعلوم كذلك أيضا أنّ أحزاب الثورة وأحزاب الثورة المضادّة توافقا على الاحتكام إلى الصندوق وإلى سياسة التوافق بدل الاحتكام إلى السّلاح والوقوع في المشهد السوري أو اليمني أو الليبي. وميزان القوى بحسب سبر الآراء وبحسب طريقة الانتخاب (نظام أكبر البقايا) لا يعطي الأغلبية المطلقة لفريق بعينه. ولذالك سيظلّ الفريقان مضطرّين للعمل سويا لتشكيل حكومة. وهو ما سيعسّر وسيصعّب عملية الإصلاح وعملية محاربة الفساد. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال إجراء عمليات جراحية ناجحة لاستئصال الفساد بفريق بعضه أو نصفه يحمل بداخله جينات الفساد ويتغذّى منها.
وما سيحدّد المشهد ليست البرامج بقدر ما هي درجة وعي الناخبين بأساليب وألاعيب الثورة المضادة. فبقدر ما تنحاز الجماهير للفكر الثوري والإصلاحي بقدر ما تكون قوّة مساندة حقيقية لفرض عملية الإصلاح ومحاربة الفساد. فما بالعهد من قدم. فإنّ مشروع قانون الميراث المقترح من قبل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ما كان ليسقط لو لم تكن قوّة برلمانية معتبرة. وفي النّهاية فإنّ الذي سيفرض الإصلاح ومتى يبدأ وبأيّ وتيرة ليس هو ذلك الرّئيس المرتقب أو هو ذلك العصفور النّادر. وإنّما هو وعي النّاخبين. فكيفا تكونوا يولّى عليكم.