محمد بن نصر
كان يلهو بهاتفه المغلق، يقلبه يمنة ويسرة، يفتحه ليغلقه، يبدو عليه التوتر والإرتباك، يجول ببصره في الأنحاء كلها، كأنه يبحث عن منفذ يلجأ إليه إذا سُدّت لا قدر الله كل المنافذ.
أقلعت الطائرة فتسمّر في مقعده زائغ العينين، ماسكا بظهر المقعد الذي أمامه كأنه يخشى أن يلقى به إلى الخارج. ما إن استوت الطائرة على الجودي حتى بدا عليه الإنشراح والتفت إلي قائلا أهلا وسهلا بجار الهواء، لم يتركني أرد التحية وأردف قائلا: أتعلم أن النبي أوصى بالجار حتى كاد يورثه وأضاف ساخرا لم أقرأ له حقا منصوصا عليه في مشروع بشرى.
نظر في الأوراق التي بين يدي وسألني ماذا تقرأ؟ قلت أقرأ كتابا محمّلا بعنوان تهافت أبي يعرب لصاحبه رائد السمهوري. قال ولماذا جعل السمهوري خاصا ما جعله أبو حامد عاما. لما عرفت أنه له بعض علم بالفلسفة قلت له شتان بين تهافت أبي حامد وتهافت السمهوري. بادرني بالسؤال على فكرة أين أبو يعرب، منذ عهد الترويكا لم أسمع منه ولا عنه شيئا، لماذا لا نره في الحوارات التلفزية؟ قلت له بضاعة أبي يعرب لا سوق لها في زمن التصحر الفكري، أبو يعرب لا يستدعونه لأنهم يخشون أن يفسد بهجة الجاهلين ومدّعي العلم.
قال لي دعنا من رداءة الإعلام ماذا تعمل أنت في الحياة قلت أستاذا جامعيا بالخارج قال أنا أعمل خبيرا فلاحيا بالداخل ولكني اخترت أن أهرب ولو مؤقتا حتى لا يغمرني تيار الكذب الجارف. لم أعد قادرا على تحمل سماع أكاذيب المترشحين للرئاسة. كلهم أبناء السيستم وكلهم يدّعون أنهم سينجزون ما يأباه السيستم. قلت له وماذا تقصد بالسيستم قال إنه القوى المتحكمة فينا والمحكوم فيها في الوقت نفسه، كل التغيرات قشرية لا تتجاوز السطح. قلت له هب أن ما ذكرته صحيح فهل هذا يمنعنا من اختيار الأقل سوءا، قال لي الأقل سوءا إذا وضعته في منظومة الفساد يصبح أكثر سوءا.
وضعوا أمامنا لمجة. قال لي لقد حضر الطعام ولا أريد أن أستقبله وأنا فاسد المزاج وأكثر ما يفسد مزاجي الحديث في السياسة. لم أشأء أن أعكّر مزاجه أكثر وتركته يستمتع بطعامه.
أنهى طعامه على مهله ثم فاجأني بالسؤال الآتي. أستاذ هل تفهم في أحوال النفس؟ قلت ومن يفهم النفس وقد استعصت على من يدعون لها فهما. قال لي إني أرتع في حدائق الجيران. قلت له لم أفهم قصدك. قال بعد عدة سنوات من زواجنا صارت زوجتي لا تتقن الا أحاديث النكد. لم تعد زوجة وأصبحت فقط أما للأولاد وصارت نفسي تطوق إلى الكلمة الحنونة والبسمة الدافئة. قلت له لو سألت علماء النفس المختصين بهذا المجال لقالوا لك الجدب العاطفي يدفع إلى اللجوء العاطفي. مثله مثل الديكتاتورية السياسبة التي تدفع إلى اللجوء السياسي. ولكن كان عليك أن تقاوم الجدب العاطفي قبل أن تستسلم للجوء العاطفي. قال لي وكيف ذلك قلت له تحيي أرضا أصبحت مواتا وتخرج زوجتك من عالم الأمومة إلى عالم الأنوثة. قال لي أستاذ أنت لا تفهم فعلا في النفس متى أصبح فاقد الشئ يعطيه ثم قال الأفضل أن نعود إلى الحديث في السياسة فهو أقل وطأة على نفسي من الحديث في الجدب العاطفي.