الوسط من يمثله في تونس ؟

أبو يعرب المرزوقي

الوسط بين رذيلتين مفهوم أرسطي يعرف به الفضائل.
اعتمده الكثير من السياسيين مع غياب المطلوب من التعريف الأرسطي أي الفضائل وبقيت الرذيلتان.
ومن دون الانطلاق من الفضيلة لا يمكن تحديد الرذيلتين اللتين يمكن أن تحرفاها.
لذلك فأرسطو لا يحدد الفضيلة بالوسط بل يحدد بها تحريفي القيمة التي تبدو وسطا وهي ذروة التحرر بتعاليها من الانحطاط الذي ينتج عن تحريفيها فيجعلانها رذيلة.
وهو قياس على الهندسة لأن أرسطو يقيس التحليل الخلقي على التحليل الرياضي عامة والمفهومات على المفهومات.

وهذا المعنى يطبق على الفضيلة التي تعرف الاستقامة الخلقية والحسن الجمالي بتحريفهما بما هو دونهما افراطا أو تفريطا.
لكن سياسيي تونس يقصدون ما يسمونه الظلامية الإسلامية ويقابلونها بالتنويرية العلمانية أي بتطرفهم الذي لا يعترفون بكونه أشد رذالة من كل الرذائل فيبحثون عن وسط بينهما أي تماما عكس هدف ارسطو.
فأولا هم يعتبرون الإسلام ظلامية والعلمانية فضيلة وهم ليسوا وسطيين لا في الاسلام دين شعبهم ولا في العلمانية دين سادتهم الذين يحركونهم كالدمى.
ومن ثم فهم لا ينطلقون من رذيلتين بل مما يعتبرونه رذيلة أي حكم الإسلاميين ومما يعتبرونه فضيلة أي حكم العلمانيين.
ولا معنى حينئذ للكلام على العائلة الوسطية لأن الوسط يقتضي حدين يتوسط بينهما.
وكلا الوصفين للحكم باسم الإسلام والحكم باسم العلمانية لا يطابقان الموجود في الساحة السياسية.
فالأولون لم يحكموا بالإسلام والثانون لم يحكموا بالعلمانية بل هم أكثر الناس استعمالا للإسلام إما إيجابا أو سلبا بحسب الحاجة التي تناسب من يستعملهم لأنهم دمى. فعندما احتاجت أمريكا للإسلام في افغانستان وللمسيحية في أوروبا الشرقية ضد السوفيات حالفت الانظمة الدينية.
وإذن فالكلام على الوسطية لا معنى له عند سفهاء الأحزاب التونسية التي لا تريد أن تحدد حقيقتها أعني أنها أحزاب مافيات داخلية في خدمة مافيات أجنبية.
كل الكلام على الوسطية في المسرح السياسي التونسي من أوهام النخب التي تمثل الانحطاط الإسلامي والانحطاط الحداثي. وطبعا الوسط بين انحطاطين هو ذروة الانحطاط عندما لا يكون المطلوب من التوسط الخروج من تحريف الفضيلة بالمعنى الأرسطي.
ولما كان الإكثار من الكلام على الوسطية اليوم في تونس على الأقل مقصورا على من لم يجدوا لهم مكانا في الفضيلتين اللتين يمكن أن يعرفا السياسة قياسا على الاخلاق لأن السياسة هي أخلاق الجماعة سواء كانت فاضلة أو راذلة لم يبق لهم إلا الاسترذال بجعل السياسة حربا على الأراذل بأرذل ما يوجد في الجماعة إرادتها ومعرفتها وقدرتها وذوقها ووجودها. وتلك هي حال السياسة في بلاد العرب لأنهم جعلوها تابعا بنيويا بسبب ما حل بدار الإسلام من تفتيت جغرافي وتشتيت تاريخي يجعلها كلها محميات وليست دولا.
وحتى لا يكون لكلامي ما يتهم به عادة من التجريد فلأعين:
ففي تونس وعملا بطبيعة التحزب السياسي من المفروض ألا يوجد إلا:

لكن الوسط بينهما لا يهمه التعديلان بل هو يتبع الأقرب إلى ربح المعركة في الساحة السياسية ولذلك فهو حليف الغالب وهو إذن تابع للتوحش الغالب.
ماذا عندنا في تونس؟
كل من ليس من الستالينية (أدعياء اليسار ومعهم أدعياء القومية) وليس من الإسلام الراديكالي (السلفيات) ومن المافية الراديكالية (بقايا نظام ابن علي) وليس من بقايا الثعالبية وليس من بقايا البورقيبية حقا لا ادعاء يسمون أنفسهم وسطية ويتبعون من يرونه الاقرب لربح المعركة.
وطبيعي أن يكون أغلبهم أميل إلى بقايا البورقيبية ليس حبا في بورقيبة بل لأنهم يتصورونه درعا ضد الإسلاميين ولأن مموليهم من المافية الراديكالية المحلية والإقليمية والدولية يتصورون هذا النهج هو الاقرب لمنع الشعب من التعبير الصادق عما يريد.
وهذه التوصيفة ليست خاصة بتونس بل هي المسيطرة في كل بلد عربي ويريدون تنفيذها بقوة المال والسلاح إن لزم الأمر في كل بلد عربي ذاق نسائم ما يسمى بالربيع التي يمكن أن تعتبر بداية الخروج من الاستثناء التاريخي في العالم. فالمعلوم أنه لم يبق فيه من هو خارج الرؤية الديموقراطية للحكم إلا:

  1. بقايا الرأسمالية القبلية المتوحشة دون عمل (اصحاب البترول)
  2. وبقايا الأنظمة العسكرية العربية التي تدعي تطبيق الاشتراكية المتوحشة أي العبودية الجديدة
  3. ومثلها العليا هي روسيا بوتين
  4. أو الصين.
  5. وبذلك نفهم المقصود بالوسطية في تونس: إنها كل من ليس إسلاميا حديثا ولا بورقيبيا أصيلا ولا من فهم تطور الرأسمالية التي صارت أحزابها يسار اليمين لتعديل الميل الاقتصادي ولا من فهم تطور الاشتراكية التي صارت أحزابها يمين اليسار لتعديل الميل الاجتماعي: هم إذن الوسط بالمعنى الجامع للرذائل وليس للفضائل السياسية.

ذلك أن الوسطية بالمعنى الأرسطي في الأخلاق والقابلة للتطبيق في السياسة هي ما حصل من تعديل للدافع الاقتصادي بالدافع الاجتماعي أو للدافع الاجتماعي بالدافع الاقتصادي وسطا بين التوحشين اللذين هما رذيلتان أولاهما تحول دون العلة الغائية للاقتصاد أعني البعد الاجتماعي شرط العيش المشترك السلمي في الجماعة والثانية تحول دون العلة الفاعلية للاقتصاد أي دوافع الانتاج المستجيب للحاجات الإنسانية العضوية والروحية.
لكن ما يجري في السياسة العربية عامة والتونسية خاصة هو أن العيش المشترك السلمي والانتاج المستجيب للحاجات ليس هم السياسة لأنه لا وجود لاقتصاد مبني على قوانينه وسننه فمن يعتبرون أنفسهم اغنياء دخلهم الوحيد تحكمه شركة -مثل سوناتراك في الجزائر وأرامكو شركة البترول السعودية إلخ.. ومن يعتبرون فقراء يعيشون على فضلات اقتصاد المستعمر وليس لهم اقتصاد مستقل. ومن ثم فكل دول العرب شبه دولة راعية بالحد الأدنى من شروط الحياة الدنيا أي توزيع الحد الأدنى من العيش النباتي.
وإذن فالمعركة السياسية لا علاقة لها بالإنتاج الاقتصادي ولا الثقافي ولا خاصة بعلاقة الاجتماعي بالاقتصادي والاقتصادي بالاجتماعي إلا بهذا الحد الأدنى لكي يحظى الحكام بشروط البقاء والنهب مع المستعمر لكل ثروات البلاد فضلا عن كونها فصلت بصورة تجعلها عاجزة عن التخلص من التبعية في ظرف لا تكون الدول قادرة على التنمية الاقتصادية والثقافية إلا إذا كانت بحجم يمكن من ذلك أو كونت مجموعة تعمل معا مثل أوروبا ومثل جنوب شرق آسيا.
فكل ما يسمى دولا عربية هي محميات وليست دول وكل الساسة العرب يكذبون على شعوبهم لما يدعون أنهم هم الحكام الفعليون وليسوا مجرد دمى تحركهم مافيات داخلية تابعة لمافيات خارجية.

Exit mobile version