الهجرة بين فكرة المشروع ومشروع الفكرة

فتحي الشوك

غيّرت الهجرة النّبويّة المباركة مجرى التّاريخ وأضافت صفحات مشرقة للإنسانية جمعاء، هي نقطة تحوّل كبرى صارت للأسف تمرّ كذكرى دون أن نستوعب دروسها أو نستخلص منها العبرة.
تمضي سنة لتلوح أخرى وحالنا يزداد تدهورا، تشتّتا، تيها وفرقة، فمتى ترانا نستفيق ومتى نبادر بتشخيص ومعالجة ما نعيشه من أزمة؟
دروس مباشرة للهجرة النّبويّة الشّريفة:
مند 1441 سنة قمرية أي سنة 622 ميلادية وبعد ثلاثة عشرة سنة من الدّعوة إلى الله في مكّة أُذن للرّسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة بعد أن سُمح للمسلمين بذلك خوفا على عقيدتهم مع اشتداد حملات التّضييق والحصار والمطاردة الّتي طالتهم فكانت موجات الهجرة الأولى إلى الحبشة ثمّ إلى يثرب.
حينما صارت الدّعوة علنيّة وبدأت تنتشر وتجد لها قبولا واسعا في مكّة تجنّد لها أعداؤها ممّن استشعروا تهديدا لمصالحهم فكانت الملاحقات وممارسات التّضييق والتّعذيب وكان الحصار لتبوء جميع محاولات إطفاء شعلة دين سكن الصّدور بالفشل ويقرّروا في النّهاية بالتخلّص من صاحب الرّسالة فكان اجتماع دار النّدوة الّذي اثبت في الحقيقة أنّ جاهليّتهم أفضل من جاهليتنا المعاصرة فقد رفضوا حينها أن يداهموا منزل الرّسول احتراما لحرمة من فيه واصطفّوا يحرسونه ويراقبون مداخله انتظارا لخروج المطلوب تصفيّته في حين أنّ زوّار الفجر عندنا لا تهمّهم مثل هذه التّفاصيل.
دروس الهجرة الشّريفة عديدة ولا تنتهي وذات أثر لا ينقطع اذ تجلّت في لحظاتها كلّ معاني التّضحية والصّبر والصّحبة والتوكّل واليقين.
كان للمرأة فيها دور بارز لا يخفى على عين بما يعلي من شأنها ويرسّخ سموّ مكانتها ومركزيّتها في الأسرة والمجتمع، تمثّل فيما قامتا به أمّ المؤمنين عائشة وأختها ذات النّطاقين رضي الله عنهما.
لم تحل تلك اللّحظات الحرجة من مشاهد التّضحية والصّحبة الصّادقة الطّيبة الّتي جسّداها علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه وابي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
كما تخلّلتها معجزات حسّية كانت براهين ودلائل ملموسة على فضل سيّنا محمّد ورفعة مقامه من ذلك مشهد خروجه من بيته وما حدث مع أمّ عبد ثمّ ما جرى في غار ثور وما حصل لسراقة ابن مالك.
والخلاصة الأهمّ أنّ الهجرة كانت درسا في التوكّل واليقين بالله مع الأخذ بالأسباب تماهيا مع “أعقلها وتوكّل” في معجزة الإسراء والمعراج، فكان التّخطيط المحكم، والتخفّي واختيار الصّحبة وتجهيز الرّاحلة بالزّاد والاستعانة بالدّليل.
كانت الهجرة برهانا على الثّبات على الحقّ والتمسّك بالعروة الوثقى وبأسباب النّصر مع الصّبر كفيل بأن يعجّل بنصر من الله
“إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (40التوبة)
هي دروس لا يكفي المجال لسردها بإسهاب ومن الممكن الاستلهام منها والانتفاع بها، أفرادا ومجموعات.
دروس معرفية: من النّظري إلى التطبيقي:
كانت الهجرة النّبويّة المباركة لحظة فارقة وحاسمة بل برزخ عبور من مجال إلى آخر.
خلال ثلاثة عشر سنة من الدّعوة، تلك الدّعوة الّتي كان مقصدها وهدفها الإنسان قصد تحرّره وانعتاقه وإعادة بنائه، استنارت العقول وتعافت الأنفس واعتمرت القلوب بالإيمان لتفيض وتشعّ على محيط الظّلمة الطّارد والمستعدي للنّور، هو ذاك الصّراع الحتميّ بين النّور والظّلمة، بين الخير والشرّ وبين الحقّ والباطل.
كانت دعوة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ثورة إنسانية كونية شاملة وكان هدفها قيامة الإنسان وبناءه فكانت تلك هي فكرة المشروع، وبما أنّ فكرة المشروع تموت حينما لا تتحقّق أو تطبّق مع استحالة ذلك في واقع طارد ورافض لها فكان لا بدّ من تغيير المجال لإثبات أنّها الفكرة حيّة منتجة وقابلة للتحقّق.
فكانت الهجرة من فكرة المشروع إلى مشروع الفكرة، أي من النّظري إلى التّطبيقي ومن الدّعوة إلى الدّولة.
كانت الهجرة من شمس الحقيقة إلى بدر الطّريقة.
انتقل الرّسول الأكرم من أمّ القرى إلى يثرب الّتي تمدّنت واستنارت بحضوره فتحوّلت إلى المدينة المنوّرة أو المدينة الفاضلة الوحيد الّتي تحققّت عبر التّاريخ وفيها برزت المدنيّة المستنيرة لتصبح مثالا لأيّة مدنيّة أخرى.
كانت المرحلة المكّية من الرّسالة المحمّدية ثورة فكر ووعي ويبدو أنّنا في مرحلتنا الحاليّة في بدايتها أو على أبوابها، والمطلوب منّا حاليا التوقّف عن الدّوران في المتاهة، وقفة تأمّل لتعديل البوصلة وتحديد الاتجاه والمسارات.
علينا تشخيص علل أنفسنا لهجرة ما فينا من مثبّطات ومعرقلات، علينا ملاحظة بيئتنا لدراسة ما فيها من معطيات لتنقية ممّا يسودها من مبيدات للحياة.
علينا بالبدء عاجلا بإصلاح ذواتنا.
“إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم” (الرعد:11)

Exit mobile version