تربيع الدائرة في علاج أدواء تونس المزمنة
أبو يعرب المرزوقي
قبل أن يوارى السبسي التراب كتبت مقالا بعنوان “لست يؤوسا لكن الوضع ميؤوس منه”. فظن الكثير أني محبط أو داع للإحباط. لكن الحقيقة هي الاعتماد على تشخيص عللته لاحقا بعرض تاريخي للوضعية السياسية والاجتماعية والثقافية وخاصة لطبيعة العلاقات الدولية التي ترتبط بها سياسة تونس منذ الاستقلال. فهذا الاستقلال هو في الحقيقة حماية مقنعة أشد وطأة من الحماية التي سبقتها لأن ما جعلته يصبح ممكنا كان مستحيلا وهو ما صار يعتبر حاليا المسألة الأولى في اهتمام من يريدون مواصلة تلك السياسة.
فما أصفه هنا بأدواء تونس المزمنة يمكن بجملة قصيرة حصره في تراكم مراحل تاريخ تونس الحديث منذ نشأة أول حزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة إلى تفتت آخر حزب سياسي توهم أحياء أول شقوق (حزب بورقيبة) الحزب الاول (حزب الثعالبي) فكان مآله التشقق أكثر منه (حزب السبسي):
- الحزب الدستوري الجديد بداية: وهو الذي آل إلى الحماية الثانية موضوع بداية الحرب الأهلية بين البورقيبية واليوسفية ودور الاتحاد الصريح بعد الدور الأول غير الصريح في الانفصال عن الحزب الأول.
- حزب نداء تونس الذي يزعم إحياءه غاية: حصرالمعركة في تونس وفي الاقليم بين إرادة التحرر والتحرير وإرادة الابقاء على الوضع الذي أنتجته الحماية الثانية والاستعمار غير المباشر الذي وصل إلى غاية الاستراتيجية الحربية وهي كما يسميها فيلسوف الاستراتيجيا كارل فون كلاوسفيتز: الحرب على إرادة الصمود الروحية في الجماعة المؤدية إلى الاستسلام للعدو والتوقف عن المقاومة الروحية التي سر كل صمود.
- مسار حزب ابن علي أو ما يسمى بالانقاذ الأول والذي انتهى إلى النظام المافياوي ذي الراسين السياسي والنقابي.
- مسار حزب السبسي أو ما يسمى بالانقاذ الثاني الانطلاق من الجمع بين 2 و3 والنهاية بالتفتت لأن المعركة التي يخفيها بالصراعات التي نراها على السطح -النمط الاجتماعي- هو للتغطية على الصراع بين رأسي المافيتين.
- الوضعية الراهنة وكيف وصلنا إلى التعفن المطلق الذي لا أرى له علاجا ممكنا إما لعدم وجود القائد القادر عليه أو لعدم وجود القوة السياسية المؤمنة به والتي يعتمد عليها القائد برنامجه: استحالة السيطرة على المافيتين ومن ثم فلا يمكن لأحد أن ينجح في الانتخابات إلا بالصلح بينهما ولا يمكن أن يتصالحا إلا على حساب عدو مشترك لا بد أن يكون كل من يريد تحقيق شروط التحرر والتحرير. وهذا ما يسمى بمعركة صدام الحضارات وهو ليس مقصورا على تونس بل هو يشمل كل الأقليم في معنى تمتين نتائج سايكس بيكو الأولى وتعميمها في سايكس بيكو ثانية خوفا من ثمرات ما يسمى بالربيع العربي وخاصة في شكله الأخير الذي يمثله صمود سوريا وليبيا وبداية حراك الجزائر.
فما سميته بصدام الحضارات الداخلي أو ما يسمونه بالنمط المجتمعي الذي يتهم الإسلاميون بإرادة تغييره والذي تحول إلى المعركة الرئيسية ليس في تونس وحدها بل في كل بلاد العرب هو الذي يحول دون النفاذ إلى القضايا التي تحول دون البناء الديموقراطي ودون تحقيق شروط التنمية بكل معانيها وخاصة التنمية التي تحقق شروط السيادة رعاية وحماية.
و في هذا المناخ نحن مقدمون على اختيار رئيس الدولة. والمنتظر أن يكون برنامج الإصلاح متضمنا الاساسيات التي لا خلاف بين من سيختاره الشعب إذا كان برنامجه مستجيبا للحاجيات التي تتطلبها الوضعية المعيقة للنباء والتغلب على مصاعب الظرفية الحاصلة ليس بعد الثورة وحدها بل خلال الستين سنة الماضية لأن ما نعاني منه الآن ليس ثمرة الثورة وحدها فيكفي العودة إلى ماقبلها لنقول تم الإصلاح. فالثورة نفسها كانت من العلامات على فشل ما قبلها أو على مآله إلى مآزق وآفاق مسدودة لم تكن الثورة أصلا فيها بل كانت فرصة ظهورها وبروزها للعيان.
لذلك فإني لا أعتقد أن الاختيار يتعلق بوجود الشخص الكفء أو بعدم وجوده -لأن تونس لا تخلو من النخب الكفأة- بل هو يتعلق بشروط انتخابه وبطبيعة القوة التي ستسنده ليس في الوصول إلى كرسي الرئاسة بل في علاج أدواء تونس: فهل يمكن تصور الوصول ممكن من دون توافق بين المافيتين أولا ؟ وهل يمكن تصور توافقهما يمكن أن يتحقق بشروط العلاج أو بشروط بقاء سلطانهما وهما متنافيان لأن الداء هو بقاؤهما؟
كل أدواء تونس هو هذه المافيات التي تسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع المنتج اقتصاديا وثقافيا والتي تتخفى تحت أسماء أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات إعلامية يعسر السيطرة عليها خاصة وهي تعتمد على قوى أجنبية نافذة.
وإذا اعتبرت المشكل ذاتيا بمعنى إذا سألت نفسي لمن ستصوت فهل أستطيع أن افعل من دون أن اجيب عن هذين السؤالين؟ فسؤال لمن سأصوت في الرئاسيات يعني سؤال نفسي حول:
- تحديد معايير الاختيار من بين ما يقرب من 30 مرشحا كلهم يدعون حيازة البلسم لمرض لا أحد منهم يقبل بأن يشخصه تشخيصا علميا وبشجاعة سياسية لا تخفي الحقيقة عن الشعب مكتفية بالكلام المعسول قبل أن يدعي له علاجا.
- وتحديد شروط العلاج السلمي لتخليص تونس من مافيتيها لأن كل ما يمكن أن يزيد المعركة اشتعالا ليس علاجا بل هو تحقيق قتل المريض حتى لو سمينا ذلك موتا رحيما.
سأقدم فرضية تبدو لي الوحيدة ذات المصداقية رغم أنها لا تبقي من بين المترشحين إلا اسمين والبقية دون التشكيك في قيمتهم الذاتية ليس له الشرط الأساسي وهو القوة السياسية الممثلة لقسم مهم من الشعب يمكن أن يكون ممثلا لإرادته بمعنى التمثيل الديموقراطي السلمي الذي علامته الحصول على الاغلبية حصولا سلميا وحرا ونزيها دون لجوء إلى وسائل التزييف والعنف.
والشخصان اللذان يمكن وصفهما بهذه الصفات يمكن اعتبارهما ممثلين لقوتين سياسيتين شبه قارتين في كل تاريخ تونس السياسي العميق وهما قوتان تبحثان حاليا أي منذ ما يسمى بالثورة عن التوازن ولم تصلا إليه لأنه صار مشكل الإقليم كله وليس خاصا بتونس وحدها.
فالمعركة بين من يدعون التحديث ومن يدعون التأصيل -وهي المعركة التي حالت دون علاج البناء الذي هو هدف السياسة الحقيقي والذي لو عولج لصارت معركة التأصيل والتحديث من أعراضها كالحال في كل الدول التي بدأت معنا وقبلنا في الغرب- معركة الانتقال من وضعيات القرون الوسطى إلى الوضعية الحديثة بوصفه نتيجة للتنمية وليس شرطا فيها.
وبهذا المعنى فبين أنه من بين الثلاثين مرشحا يبدو لي أنه لا يوجد إلا شخصان وراؤهما قوة سياسية بهذا المعنى يمكن أن تعتبر كافية في وضع سياسي عادي قد يخرج تونس من قلب العلاقة بين العلة والمعلول في تحديد شروط البناء الديموقراطي السليم وتحقيق شروط التنمية التي يتفرغ لها الشعب المتصالح مع ذاته وتاريخه حتى يكون الخيار بينهما قابلا للوصف بأنه سياسي بمعايير سياسية سوية. وسأذكرهما دون مفاضلة تعين اختياري الشخصي لأن ذلك من اسرار الانتخابات. وكلاهما يسميان بالعبودية لله مضافة إلى أحد أسمائه الحسنى وهو أمر ذو دلالة عندي إذ لعل صدفة الجمع بين الكرم والفتح من بشائر الخير على تونس خاصة إذا جرى التنافس بشروط الفروسية:
1. عبد الكريم الزبيدي:
فمن بين الصف الذي ينتسب إلى البورقيبية – كما أعلن في تصريحه الأخير لإذاعة سوسة – يمكن اعتبار الزبيدي أقلهم تعلقا بإشكالية المعركة بين الحداثة الاصالة وكلامه كله يتعلق بالمصالحة وقلب الصفحة والسعي إلى البناء مع كل التونسيين ما يعني أنه في هذا الكلام راجع الاعلان الاول على النقاط الخمس ويكون قد غلب تأويلي الموجب لها بدلا من تأويلي السالب الذي كان يبدو راجحا لدي.
2. عبد الفتاح مورو:
ومن بين الصف الذي ينتسب إلى الثعالبية يمكن اعتبار مورو أقلهم تعلقا باشكالية المعركة بين الاصالة والحداثة لأنه جمع بين الثقافتين الجمع الملم بأهم ما فيهما إذ هو خريج الصادقية والقانون مع المعرفة بأهم فرع من فروع ثقافة الغرب (الألمانية) وخريج الزيتونة والفقه مع المعرفة بأهم فرع من فروع ثقافة الإسلام (التفسير الحديث).
وكلا الرجلين له وراءه قوة سياسية معتبرة. ولو التقيا لكان بينهما توافق حقيقي وليس مغشوشا كالذي حصل بين السبسي والغنوشي وفي مناخ من التوجس المتبادل والخوف الذي استبد بالإسلاميين بعد فضائع ما جرى في مصر وما يجري في سوريا وليبيا ولاستطاعا قلب صفحة الحرب الأهلية الباردة أحيانا والحامية أخرى للشروع الفعلي في إخراج تونس من الحرب الأهلية. فلا يمكن أن يكون أي منهما خاضعا للابتزاز اليساري والقومي والنقابي وخاصة لمافيات التهريب والاقتصاد الموازي.
لكن هل يمكن اعتبار من وراء الزبيدي صادقين مثله فلا يكونون متخفين وراءه وهم ممن وصفت من المافيات التي حصلت خلال تاريخ فشل المرحلة البورقيبية وما آلت إليه من دم وما تلاها من انقاذ مزيف هو الذي فرخت في عهده المافيات واصبحت تونس نصف اقتصادها خارج سلطان الدولة وما بين يدي الدولة هو بدوره خارج سلطانها لأنه ما يزال تحت سلطان فرنسا؟
وهل يمكن اعتبار من وراء مورو لهم مهرب من ذلك فيتجنبوا الوقوع في اغراءات نفس المطب وإن بتدريج لعل ما يحول دون تسريعه هو الحرب الحضارية باسم النمط الاجتماعي؟ وإذن فالمشكل كما أسلفت أو مشكل تربيع الدائرة ليس في وجود من يستطيع أن ينظف الجرح حتى يندمل بل هو أعمق من ذلك لعلتين:
- القوة التي وراء الزبيدي لن تسمح له بأن يحقق ما يعد به أعني الصلح لحسم هذا الصراع واخراج تونس منه. وهذه القوة التي تريد استغلال الزبيدي -حتى وإن قال إنه مطلق الاستقلال وهو كلام ليس سياسيا لأن الرجل ليس له عصا موسى حتى لو فرضنا أن الجيش معه وهو أخطر ما يمكن أن يؤول إليه وضع تونس لأنها حينئذ تكون قد تخلت عن أهم انجاز ندين به لبورقيبة أعني ابقاء الجيش خارج العبث السياسي كالحال في بلاد العرب الاخرى- لأن تونس كما أسلفت هي اليوم بلد المحاصصات بين نوعي المافيات السياسية والنقابية.
- القوة التي وراء مورو هي الهدف الأول والأخير لكل القوى التي وراء الزبيدي وحتى للتي تدعي الوسطية والديموقراطية وهي بمقتضى وزن الريشة ستكون من توابع القوى الاولى ما قد يضطر الإسلاميين إلى الرقص مع الراقصين بمقتضى الحاجة للتكيف من أجل البقاء.
لكن الاخطر من ذلك كله هو أن هذه اللعبة التي تحول دون الصلح الحضاري بين الأصالة والتحديث أو بين ثقافة الشعب وثقافة النخبة المستلبة صارت هي الغالبة في كل الأقليم: فهي محلية (في كل بلد عربي على حدة) وهي جهوية (التجمعات الجهوية مثل المغرب والخليج وإلخ.) وهي اقليمية (في كل الاقليم الذي يسمى الشرق الأوسط الكبير) وهي عالمية لأن الغرب اليوم وخاصة أمريكا وإسرائيل يعتبران الحرب على التحرر الأقليمي من الاوليات والتحرر الإقليمي هو بالأساسي التحرر الثقافي والاقتصادي والسياسي ومن ثم فهو ما يسمى للتغطية حربا على “الإرهاب والإسلام السياسي”.
قصصت في هذه المحاولة حيرتي الشخصية واعتقد أن الكثير يقاسمني هذه الهواجس. والمفروض أن يكون المرشحان متفقين على الإصلاحات الأساسية حتى وان تمايز كل منهما بأسلوب خاص في التعامل مع المعضلات. واعتقد أن هذه الأساسيات من جنسين:
- الأول يتعلق بإصلاحات دستورية حول نظام الحكم وتوزيع السلط وخاصة حول نظام القوى السياسية ونظام الاحزاب والانتخابات التي تبعد “الذباب” على صحن عسل السلطة الذي آل إلى العبث والمهازل.
- الثاني بالحد من كلفة الدولة ودورها الذي جعلها “تكية” للمافيات وليست حكما تحتكم إليه القوى المنتجة بحق وليس الطفيليات التي تمص دم الدولة ومؤسساتها لكأنها دولة شيوعية أو حتى مشاعية للمافيات السياسية والنقابية التي جعلتها اقطاعيات تتمعش منها وتفقر البلاد والعباد.
لكن هذا الرنامج لا يمكن الفراغ له إذا ظلت المغالطات تحول حول نمط المجتمع والإصلاح الديني وكل التخريف الذي قضت فيه تونس ستين سنة فوجدت نفسها في الأخير لم تحقق إلى فترينة كسرت الثورة بلورها فأظهرات اعوارها وعيوبها وهي الوضعية الحالية التي علينا الخروج منها في اقرب فرصة وإلا فسنزداد غرقا.
والله يقدر الخير.