مقالات

حرّية للبيع في المزاد

فتحي الشوك

لم يكن قرار مفوّضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان تأجيل مؤتمر مناهضة التّعذيب بمصر مفاجئا بقدر نيّة عقده في بلد يمارس التّعذيب صراحة وبشكل فاضح وممنهج. كانت لردّات فعل النّاشطين الحقوقيين ولمعظم الجمعيات الحقوقية المحترمة المندّدة والمستهجنة والمستنكرة دورها الحاسم في تغيير موعد ومكان انعقاد المؤتمر، عاصفة من الانتقادات نفضت الغبار عن ملفّ حقوق الإنسان بمصر وألقت الضوء مجددا على فظاعة الجرائم المرتكبة في حقّ الإنسان هناك لينتبه الضّمير العالمي المغيّب إلى مأساة آلاف المعتقلين ظلما في السّجون المصرية مع بروز بعض المبادرات الرّامية لانهاء معاناتهم، فما هي جدّية تلك المبادرات وهل هي محاولة لإيقاف نزيف الانتهاكات أم هي تطبيع مع آلة القمع و تلميع لها؟
مؤتمر لمناهضة التّعذيب في بلد التّعذيب؟
كان من المقرر أن ينعقد مؤتمرا لمناهضة التعذيب قي القاهرة يومي 4 و5 سبتمبر 2019 برعاية مفوّضية حقوق الإنسان بالأمم المتّحدة وبحضور ثمانين جمعية حقوقيّة وتمثيل لتسعة عشر دولة عربيّة، وقد قوبل اعتزام المنظّمة الأمميّة عقد المؤتمر بمصر باستهجان واستنكار منظمات حقوقيّة عدّة وناشطين حقوقيين اتّهموا الجهات المنظّمة بمحاولة تلميع النّظام الانقلابي المصري ومنحه زورا شهادة براءة لا يستحقّها.
سجّلت مصر خلال السّنوات الستّ الّتي عقبت الانقلاب العسكري على الرّئيس المصري المنتخب محمّد مرسي كلّ صنوف انتهاكات حقوق الانسان، فمن مجازر النهضة ورابعة ورمسيس وعربة التّرحيلات إلى الإعدام خارج القانون باسم الارهاب المصطنع الى الاختفاء القسري إلى التّعذيب الممنهج والتّنكيل بكلّ معارضي النّظام وبكلّ من يغرّد خارج السّرب حتّى أنّ الانتهاكات تمدّدت لتشمل من ساندوا الإنقلاب على أوّل رئيس مصري منتخب شعبيّا والّذي انتهى به المآل لأن يرتقي شهيدا بعد خمس سنوات من السّجن وسوء المعاملة والعزلة ومنع العلاج.
يقبع في السّجون المصرية أكثر من 60 الف سجين رأي أغلبهم إسلاميين مع بعض اللّيبراليين واليساريين والنّاشطين الحقوقيين، وسجّلت منظّمات حقوقية مابين سنتي 2014 و2018 قرابة 1723 شكوى من تعذيب فردي و677 تعذيبا في أقسام الشرطة والسّجون مع وفاة 534 شخص في أماكن الاحتجاز، 189 منهم نتيجة التّعذيب.
تمّ إعدام ما لا يقلّ عن 179 شخصا على الأقلّ منذ 2014 حتّى مايو 2019 مع صدور 3000 حكم بالاعدام خلال نفس الفترة كما تمُ توثيق 1530 حالة اختفاء قسري بين يوليو 2013 وأغسطس 2018.
عدد المعتقلين الّذين توفّوا بسبب الإهمال الطبّي وسوء المعاملة والتّعذيب منذ يوليو 2013 ارتفع الى 823 وكان آخرهم المعتقل شعبان الأسود البالغ من العمر 55 سنة والمصاب بسرطان الكبد الّذي توفّي نتيجة الإهمال الطبّي يوم 20 أغسطس 2019 داخل سجن 430 بمنطقة سجون وادي النطرون. انتهاكات متنوّعة وممنهجة لحقوق الانسان،
يضاف إليها تقتيل وتهجير لأهالي سيناء وتفقير لعموم الشّعب المصري.
علّق كينث روث المدير التّنفيذي لمنظّمة هيومن رايتس ووتش منتقدا نيّة عقد مؤتمر لمناهضة التّعذيب بمصر، واصفا ذلك بالفضيحة المدوّية وأثنى على قرار التخلّي عن ذلك قائلا بأنّ العقل تغلّب على الجنون، مشبُها فكرة احتضان مصر لمثل تلك المؤتمرات في ظلّ وجود السّيسي المعروف بممارسة التّعذيب بشكل ممهنج بأحد كوابيس روايات كايفكا.
خمسة آلاف دولار لأجل الحرّية؟
في ظلّ ما تعيشه مصر من انتهاكات جمّة لحقوق الإنسان وتحت وطأة المعاناة اليوميّة الّتي يعيشها المعتقلون وما يطالهم من تعذيب ممنهج وقتل بطيء مع انسداد الأفق وانعدام الحلول على المدى القريب، تعامد مع نفاق مجتمع دولي يغضّ البصر على جرائم ترتقي الى مستوى جرائم الحرب، تبرز من حين لآخر بعض المبادرات لحلحلة الأزمة وتحريك المياه الرّاكدة، من بينها تلك التي أعلنها بعض النّاشطين مؤخّرا والُتي تنصّ على دفع خمسة آلاف دولار مقابل حرّية مشروطة. يقول المتحمّسون لهذا العرض بأنّ معاناة وآلام ودماء وحياة المعتقلين لا تقيّم بثمن وتحتّم البحث عن أيّة قشًة نجاة وتستدعي النًبش ولو بالأظافر لأجل حفر كوّة في جدار الظّلمة، فليس الواقف فوق الرّبوة أو وراء حاسوب كالجالس على الجمر أو فوق خازوق منتظرا مصيره المحتوم، هي أزمة صارت انسانيّة بالمقام الأوّل ويجب حلّها استعجاليا لإيقاف النّزيف بغضّ النّظر عن حسابات السّياسة ومعادلاتها.
وبالمقابل لا يبدو أنُ هذه المبادرة يمكن أن تصدر دون ضوء أخضر من نظام متسلّط يعيش أزمة برغم محاولاته اثبات العكس وغايته استكمال شرعيّة منقوصة تخلّص من رمزيّة رأسها لينتقل الى تقطيع جسدها مع هاجس الإفلات من العقاب جراء ما اقترفه من جرائم.
عمل النُظام الفاشي القمعي المصري على تسمين آلته وتمكينها بالتّزامن مع تخسيس الشّعب وتفقيره، فللطّغمة المهيمنة المدينة الجديدة المحصّنة وكلّ السّلطة والثّروة والحياة وللغالبيّة المستضعفة الموت والسّجون وبعض الفتات. وبانشاء السّجن المركزي بأسيوط ارتفع عدد السجون المصريّة إلى 66 ثلثها أنشئت في عهد السّيسي.
خمسة آلاف دولار هي ثمن التّسريح الشّرطي مع تعهًد شخصي بالكفر بالثّورة وبالمعارضة وبابداء الرّأي في الشّأن العام مع وضع المفرج عنه في شبه مراقبة إدارية تعدّد له أنفاسه.
خمسة آلاف دولار ستكون ثمن تذكرة العبور من سجن ضيّق إلى آخر رحب ومن الحرّية الحقيقيّة إلى حقيقة الاستعباد.
لا يمكن لعاقل أن يتخيّل أنّ نظاما قمعيّا انتهازيّا مصّاصا للعرق والدّماء سيخلي سجونه ليهتمّ بالانسان، ما سيفعله أنّه سيفرغها ليملأها من جديد وتصبح العمليّة ممتعة وذات مردودية مربحة.
وبدل أن يعتذر الجلّاد عمّا اقترفت يداه سيُعتذَر له عمّا بذله من جهد ويُجبَر له ما عايشه من مشاهد حصص التّعذيب الّتي ربّما أثّرت سلبا على صحّته النّفسية!
قد تكون نيّة بعض المتحمّسين لإيجاد حلّ استعصى وصار قاب المستحيل أو أدنى طيّبة، لكنّ المؤكّد أنّ القضايا الكبرى لن تحلّ بالنّوايا الطيّبة!
فلا أظنّ أنّ الرّئيس محمّد مرسي قد استشهد لأجل أن تستبدل حرّية وكرامة الصّامدين داخل السّجون بالمهانة والاستعباد خارجها، ولا أظنّ أنّ آلاف الشّهداء ممّن سقوا بدمائهم الزّكية شجرة الحرّية يرضون بمثل هكذا مقايضة.
لا يمكن إيجاد حلّ جذري للأزمة المصريّة دون مصالحة وطنيًة حقيقيّة وهو ما حصل في مجتمعات اخرى تعرّضت لأزمات مشابهة وماعدى ذلك هو تعميق للجرح وتأجيل للانفجار.
درب طريق الحرُية طويل شاقّ وصعب وألم سالكيه هو بمثل ألم من يريدون قطعه.
“وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” (الآية 104 من سورة النّساء).

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock