مورو المرح: هل ينزع العمامة في الطريق إلى قرطاج ؟
نور الدين الختروشي
يتابع التونسيون باهتمام شديد ونشط يوميات الرئاسيات خاصة بعد اعلان النهضة المفاجئ ترشيح الشيخ عبد الفتاح مورو للمنصب، بما أنعش السياسة واعاد لها لحظة مرح تاريخي باستعادة حرارة المعني بعد أن قتلها او يكاد روتين الديمقراطية.
انتبه بنجامين والتر منذ ثلاثينات القرن الماضي الى مسار موت السياسي وولادة “المتصرف” ومن خلالها انقلاب الموقع والوظيفة التاريخية للدولة للتحول من صانعة للمصير العام الى اداة تنظيم تقني للاجتماع السياسي.
فالدولة التي أطردت بشراسة من السوق خرجت من مدار احتكار الثروة، واستتباعا السلطة، وبالنتيجة أضطرت أن تحكم أقل. والسياسي الذي كان يشتغل على موضوع صنع المصير العام ويمني النفس ويعد الناس بتغيير الوجود والموجود رمته “ديمقراطية الرأي العام” خارج مدارات حلمه الخالد في ان يكون الفرد/البطل /الزعيم الذي يصنع مستقبل الشعوب.
الفاعل السياسي تحول الى مترشح للفوز بوظيفة تقنية بالنهاية جوهرها القدرة على التصرف في هياكل واجهزة الدولة الباردة، وشهدنا في المجال الغربي بوضوح مسار موت السياسي وولادة التكنوقراط بعد سقوط معسكر الاتحاد السوفياتي وانتصار الليبرالية الجديدة، وجوهرها تأميم السوق واحتكاره لمنابع إنتاج عنوان المصير العام.، فلم ينتظر السوق تحقق يطوبيا الماركسيين وحلمهم بمجتمع شيوعي طهوري عادل ومسالم من دون صراع طبقي، ومن دون تفاضل اجتماعي. فتولت البورصة المهمة التاريخية للايديولوجيا كقالب متخيل لواجب اعادة صياغة الوجود التاريخي وضرورة تغيير والموجود الاجتماعي..
اردت بهذه المقدمة المختصرة الاشارة الى السياق التاريخي الذي تندرج فيه ديمقراطيتنا الفتية والانتباه الي منسوب الاهتمام العالي بالسياسة والسياسيين في زمن كوني اغتالت فيه الديمقراطية السياسة وهمشت وظيفتها يمثل استثناءا تونسيا مرحا في زمن ما بعد ليبرالي من عناوينه الكبرى الطموح المخاتل بأنهاء الوظيفة التاريخية للفاعل السياسي.
ديمقراطيتنا التي مازالت تبحث عن توفير شرط توطينها واستقرارها، تترشف ما تبقى من شراب المعنى والدلالة، مستغلة في ذلك تمدد مسار التحول الديمقراطي من جهة، ومزاج شعبي عام مازال مشدودا للدور الوظيفي للزعيم السياسي وقدرته الخارقة على تحويل الواقع وتحقيق الحلم العام.
ترشيح مورو ممثل حركة النهضة كهدية قدر للسياسة لتستعيد قليلا او كثيرا من ألقها وحضورها، ترشح عبد الفتاح مورو وبقطع النظر عن المشروعية السياسية المتصلة بصوابية اختيار حزبه، والحسابات والموازنات التي واكبته، دفع بالاستحقاق الرئاسي الي تخوم الأيديولوجي حيث تستثار نوازع الصراع حول موضوع اعادة صياغة الوجود الوطني ما يتصل به من عناوين الهوية والثقافة على حساب موضوع تحسين شروط الوجود الاجتماعي والسياسي..
ماذا يعني هذا؟
هذا يعني من جهة ردة منكورة الى تهارج مجتمع النخبة حول أسئلة الهوية والتاريخ والثقافة والحداثة والنمط المجتمعي وغيرها من العناوين التي من المفترض انها حسمت في اللحظة التأسيسية، وصيغت دستوريا لتنهي السجال العام حول سؤال من نحن؟
يعلم المتحمسون لاستدعاء سؤال الهوية والتخندق من جديد في حروب ما قبل السياسة ان إدارة المعركة حول الحكم في تونس الجديدة موضوعها برامجي وفني يتصل بتحسين الضرف المعيشي للمواطن وفي هذا لا تكاد تختلف برامج الاحزاب والفاعلين السياسيين والثابت ان “البرامج”، لن تكون عامل تحشيد وازن للناخبين.
في هذا السياق جاء قرار النهضة بترشيح مورو لقرطاج كهدية قدر لحيرة وشرود الأطراف التي مكنتها “معركة المعنى” في الانتخابات السابقة من العودة الى الحكم بعد الثورة
هذه الأطراف الخاسرة تاريخيا من نهاية الصراع حول سردية الهوية والنمط المجتمعي تعتقد ان سوء تقدير النهضة لموقعها ودورها من العملية السياسية يعطيها فرصة لتحويل الانتخابات الرئاسية من محطة سياسية لاختيار رئيس جديد للبلاد محدود الوظيفة والصلاحيات الى معركة عامة حول المصير عنوانها “نحن او هم” هنا تسعد السياسة باستعادة المعنى ويحزن الوطن لاسننزاف موارده الرمزية والمادية في معركة واهمة…
تجييش الناخب وراء معركة التصدي لخطر الاصولية الاسلامية لمواجهة مرشح النهضة قد يستجلب ما تبقى من الرصيد البشري للمتمسكين بوهم المعركة ضد عدو متخيل ولكن كل مؤشرات الاستحقاق الانتخابي الرئاسي تفصح عن حقيقة مرة عند المعنيين بأستدعاء عدائيتهم الغريزية للاسلاميين وهي عدم قدرتهم على بناء استرانيجية انتخابية على عنوان استبعاد خطر الاسلاميين. فأداء حركة النهضة السياسي بعد الثورة يحسب له ومع جميع الاخطاء الذي واكبه انه تمكن من امتصاص أغلب مفاعيل الشحن النفسي والسياسي ضد حضور الاسلامي في المشهد العام بل ونجح أداء النهضة في إقناع الجزء الغالب من المعنيين في الداخل والخارج بمصير التجربة التونسية لا بأحقية الإسلامي بالوجود في نصاب ديمقراطي سوي بل بأهليته العينية للحكم على ارضية دولة العقد والمواطنة.
هذا الاختراق التاريخي الذي أنجزته حركة النهضة في تحويل “الاسلامي” من عامل تعقيد لانتقال اوطاننا الى زمن الحرية والحداثة السياسية الى عامل محدد في إنجاح وتسهيل وتسريع واستقرار هذا التحول لم تستوعبه النواة الصلبة لتونس القديمة وستتسرع في استدعاء نوازع الحقد والرفض للإسلاميين لتحشيد الناخب وتجييشه في معركة بدأت مؤشراتها تبرز في خطاب رموز المعنيين بالعودة الى قرطاج على نفس الحصان الذي ركبه الباجي قائد السبسي في العهدة السابقة.
المعنيون اليوم بأسندعاء خطاب التهارج الأيديولوجي يعلمون جيدا حقيقة النهضة الجديدة كحزب مدني ديمقراطي أنهى معركة مراجعاته واعادة صياغة مشروعه بتجريده من مفردات الحلم العقائدي والايديولوجي وتقليصه سياسيا في حدود متطلبات موضوعة الحكم.
يعلم الموتورون بأستدعاء معركة الوجود ضد الاسلاميين هذه الحقيقة، ولكن شلل مخيالهم السياسي مدفوع برفض حدي وعقائدي عميق سيدفعهم اليوم الى استدعاء وهم مواجهة الاسلاميين وممكن تغولهم واحتكارهم لمنابع السلطة. وتقديري ان هذا بالتحديد ما سيسهل على مرشح النهضة طريق الوصول الى قرطاج.
ترشيح مورو أعاد للسياسة ألق السجال حول المعاني الكبرى والحلم العام، وكان ممكنا ان نستظرف هذه العودة الغير محمودة لأسئلة التأسيس والبدايات الكبرى ولكن منسوب الضياع لدى المعنيين بتحويل الصراع السياسي حول موضوع الحكم الى صراع تاريخي حول موضوع الهوية وأسس اجتماعنا السياسي، يجعلنا ننبه ان رخوية الحالة الديمقراطية في ظل فشل مزمن للنخب بعد الثورة في انجاز الأدنى من المطلوب تنمويا واجتماعيا، وفي ظل وضع اقليمي ودولي متحرك وغير ثابت في دعم الديمقراطية في محيطنا العربي وهو ما يعني ممكن انحراف المسار، بالنظر الى حجم التأثير الناعم والصلب والخفي الذي تملكه القوى الخاسرة سياسيا من المواجهة الانتخابية مع النهضويين في تشكيل المشهد والتحكم في مساراته.
مورو يبدو أنه في طريق مفتوح نحو قرطاج فقط ليحذر منعرجاته فقد تكفلت العهدة الانتخابية السابقة بنزع الألغام ولكنها لم تستوفي ورشة أصلاح الطريق…
نتابع
الرأي العام