في المُرْجِئة ..
علي المسعودي
بعض المثقفين الراديكاليين يرى الأمور كما يلي :
الحريات الفردية ليست سوى شعار وهمي، وخديعة بورجوازية من أجل التعمية على الصراع الطبقي المحتدم..
ومثقفو النظام الاجتماعي السائد لديهم مهمّة وحيدة موكّلون بها : خلق محاور صراع وهمية من أجل إلهاء الطبقة الشغيلة..
من هذه المحاور مسألة ما يسمى بالحريات الفردية، والتي لن يكتب لها التحقق إلا في سياق التحرر الطبقي الكامل..
•••
من المؤسف أن بعض المثقفين يفضلون دولة الاستبداد المطلق على العيش في مناخ حرّ.. باعتبارها أكثر فضحا لحقيقة الصراع !..
ومن المؤسف أيضا أن يصبح مفهوم الدولة والمواطنة، ومبادئ الصراع في إطار التعايش السلمي جميعها صناعات خبيثة المقصد..
هذا النوع من التفكير لا يختلف في شيء عن عقيدة المهدي المنتظر، والذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا.. فهو يفرح لاشتداد الظلم لأنه ايذان بخلاص قريب !..
بهذا المعنى، المحامي الذي يدافع عن المظلومين ضدّ بطش السلطة هو صنيعة بورجوازية..
والحقوقي الذي كرّس حياته دفاعا عن حرية التعبير، هو أيضا صنيعة بورجوازية.
وكل المبادئ المتصلة بحقوق الانسان والمساواة ليست سوى عمليات إلهاء.. ولا ينبغي الوقوع في مصيدتها..
ذلك أن معاداة النظام الاجتماعي السائد بصفة جذرية تفترض أيضا معاداة الحياة الديموقراطية بكل مؤسساتها، باعتبارها خديعة بورجوازية، وكل النضال التاريخي من أجل الحقوق والحريات باعتبارهما مؤامرة بورجوازية أيضا.
أعتقد أن هذا الموقف الجذري، فيه اتهام للجميع.. وليس للنظام الاجتماعي السائد فقط. وهو موقف يبرر الاستبداد بطريقة ما، ويريح صاحبه كما تريح المهدوية معتنقيها وتعفيهم من كل مسؤولية أخلاقية إزاء آلام الآخرين.
وهذه الرؤية القصووية لا تفيد إلا الطبقة البرجوازية نفسها، فالموقف الاتهامي، والفوضوي يعزل نفسه.. ويعطي مساحة أكبر لأعدائه..
وتصوير الحرية الفردية كنوع من الأنانية هو تفكير يرفض مبدأ الحرية بإطلاق.. فالحرية التي تحتكرها لنفسك بدافع طبقي هي سجن للجميع..
السؤال هو التالي :
هل نجلس في انتظار أن تأكل البرجوازية نفسها بمتناقضاتها، أم نسعى إلى التغيير دون أن نتهم بالعمالة الطبقية ؟
إذا كانت الطبقة البورجوازية تملك كل شيء.. إذا كانت هي من صنعت الدولة ومؤسساتها، الثقافة وأوهامها.. فلا أعتقد أن الثورة بمفهومها الطبقي بالشيء الممكن.. ولا أرى أن عبوة ناسفة صغيرة يمكن أن تحدث أثرا في مبنى بهذه المتانة..
•••
فلننظر إلى الأمر من الزاوبة الصحيحة : البرجوازية التي تتيح التعبير عن هذا الموقف من خلال مؤسساتها، لا تفعل ذلك إلا لخدمة مصالحها.. وهي بذلك تشير إلى الاستثناء الذي يؤكد قواعدها، ويدعم أركانها.. انتبه !، حتى نمط تفكيرك الثوري قد يكون بدوره خداعا بورجوازيا !!.
•••
في الواقع، الوجود الانساني كفرد هو مبدأ كل الأسئلة، بما في ذلك وجودنا كمجتمع، وكطبقة.. وهو سؤال آني ودائم.. ولا يحتمل التأجيل.. هذا الوجود الذي جوهره حرّية..
فإذا كان الإنسان يولد مفردا، فمن الطبيعي أن يكون مطلب تحرّره الاجتماعي تاليا..
وإذا كان صحيحا أن الوعي بالذات مرتبط بالسياق الاجتماعي، فمن الصحيح أيضا أنه يولد في البداية بمعزل عنه.. فهو سابق له عكس مقولة ماركس في المادة والوعي..
وهنا يجب أن لا نخلط بين الحرية الفردية كمسألة وجودية، والفردانية كجزء من تراث ليبيرالي كلاسيكي كان فعلا بضاعة بورجوازية لا يخطئها النظر.
ملاحظة أخيرة :
لا فرق وظيفيا بين من يرفضون العملية الديموقراطية برمتها ومن ينخرون جدرانها من الداخل. فالاستبداد له قدرة عجيبة على التجدد، وعلى اتخاذ أكثر الأشكال تحايلا وخداعا.
وإذا صرفنا أنظارنا اليوم عن الدفاع عن الحريات الفردية، باعتبارها تحريفا للصراع، فلن نحصل عليها لا اليوم، ولا غدا.. ذلك أن الحريات الجماعية ينبغي أن تكون نتيجة فعل أحرار في صيغة المفرد، وليس العكس.