نور الدين العلوي
منذ أكثر من 50 عامًا يكتب المفكرون العرب في نقد الإسلاميين والأحزاب والتنظيمات الإسلامية والفكر الإسلامي، يستعين كتاب عرب بكتاب غير عرب وينقلون عنهم وأحيانًا يسرقون منهم بتصرّف طفيف، ولكن الموضوع المهيمن يظل الإسلام السياسي وتطوراته وخاصة عيوبه التي تبشر دومًا بنهايته.
قرأنا – والحمد على نعمة الصبر – الكثير من هذه الكتابات ونجدها منحازة وغير موضوعية وكثير منها أماني كتاب لا معطيات واقع متحرك، ولكن هذه الورقة ليست للرد، فهي لا تكفي، ولكن لطرح سؤال آخر يهمني طرحه: لماذا لم يحظ الفكر القومي والتنظيمات القومية والفكر اليساري والتنظيمات اليسارية العربية بنفس الاهتمام والنقد والتنبؤ بالمصائر؟
الكُتَّاب جهة واحدة
المهتمون بالظاهرة الإسلامية وبمصيرها وتعرجاتها في الأعم الأغلب كتاب علمانيون (يساريون وقوميون وليبراليون) لهم مسافات مختلفة من الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، بعضهم يخدمها وبعضهم يعارضها، لكنهم متفقون على تركيز القول على الظاهرة الإسلامية وترك بقية الظواهر السياسية والفكرية في الظل، لذلك لا نقرأ لكتاب عرب ينقدون اليسار العربي وتجاربه وأطروحاته ولا لكتاب قوميين ينقدون التجربة القومية في السلطة وخارجها، والمكتوب القليل تقريض الزعامات وامتداح تجاربها المعصومة.
يحتاج الأمر إلى أطروحة كبيرة لمقارنة المكتوب وموقع الكتاب من السلطة للبحث في فرضية مهمة، هل كان هؤلاء يكتبون بأمر ويوجهون القراءة نحو نقاط محددة وإغفال أخرى أم أنهم كانوا كتابًا أحرارًا في اختيار مواضيعهم، كما نحتاج أطروحات كثيرة لسبر الارتباط بين ما تكتبه مخابر الرأي العام الغربي وما يتردد صداه لدى كتاب عرب خاصة كتاب المغرب العربي الذين يعيشون في هامش الجامعات الفرنسية ويقرأون بلغتها ويحاضرون في منتدياتها وينتجون لها ما تريد وإن لم تطلب.
رغم تشعبات التحليل الممكنة فإن النتيجة الحاصلة الآن عربيًا أننا نعرف كل صغيرة وكبيرة عن الإسلاميين بمختلف اتجاهاتهم وأفكارهم ولكننا نجهل كل شيء عن اليسار العربي والتيارات القومية التي حكمت وفقدت السلطة، ولا نعرف بدقة أسباب تلاشيها السياسي وتحولها إلى مجموعات سياسية محدودة العدد والتأثير ومتناحرة فيما بينها قطريًا وقوميًا وهي التي زعمت توحيد الأمة كلها في دولة واحدة.
موضوع موحد
يجمع بين الكتابات عن الإسلاميين خيط واحد يمكن وصفه بالاستشراق أو هو إعادة كتابة لأطروحات استشراقية، فيتم التركيز على فكرة أن وجود الإسلاميين في مشهد سياسي تعددي هو نقيض الديمقراطية السياسية، بل إن الإسلامي دومًا عدو للديمقراطية، لذلك لا تطرح أسئلة عن ديمقراطية فيها إسلاميون ولا أسئلة عن تأثير العذابات على بقاء التنظيمات وتماسكها، فما كتب عن الجزائر بعد إسقاط نتائج انتخابات 1990 هو تقدم الديمقراطية في الجزائر بعد تنظيف الساحة من جبهة الإنقاذ، أو في المغرب حيث ترجع الكتابات الفرنسية بقاء المخزن واستقرار الدولة إلى تغييب الإسلاميين، وطبعًا قرأنا في الصحافة الفرنسية خاصة تمجيد ديمقراطية بن علي بعد تصفية حزب النهضة.
يجمع بين جميع الكتابات عن الإسلاميين جامع حتى لكأنها تصدر من قلم واحد في مختلف الأقطار العربية والأوربية، وأهم هذه المحاور/المشتركات:
- الإسلاميون عامة وتيار الإخوان المسلمين وفروعه خاصة لا يمثلون الإسلام فهناك إسلام متعدد وهم أبعد ما يكونون عن الحديث باسمه، ويضيف البعض أن لا حق لهم فيه.
- الإسلاميون لا يمكن لهم التعايش مع الديمقراطية بل هم نقيضها الجذري وغيابهم شرط التقدم في إنجاز الديمقراطية.
- الإسلاميون لا يتطورون فكريًا وكل حديث يصدر عنهم في هذا المعنى هو نفاق سياسي وخديعة استيلاء على السلطة.
- قوة التنظيمات الإسلامية تعود إلى أنهم يفكرون كطائفة ولديهم خطة الحشاشين للاستيلاء والخداع والإرهاب، لذلك فإن كل الحركات الإسلامية التي تعلن الجهاد هي فروع منظمة من التيار الأم (الإخوان) صنعها ويخاطب من خلالها العالم لذلك فالإرهاب أصيل في التيارات الإسلامية السياسية وما وجهها المدني إلا خداع وتمويه.
- الإسلاميون ومشروعهم نقيض للتقدم والعصرنة أو التحديث السياسي والثقافي، فهم ممثلو الرجعية بل هم الرجعية، وقبل الربيع العربي كان هذا الحكم يشمل كل أنظمة الخليج العربي الحاكمة ثم حدث تمييز فقصرت الرجعية على الإخوان وفروعهم، بينما صارت أنظمة الخليج تقدمية أو تناصر التقدمية وخاصة في مصر وتونس وليبيا.
يضيف الكتاب القوميون إلى هذا أن الإخوان صنيعة مخابرات مهمتها تخريب الأمة ووحدتها ومشروعها التاريخي مع جمل مستعادة من خطابات ناصر والبعث عامة.
الكتابات عن الإسلاميين لم تشمل تقييمًا موضوعيًا لأثر السجون والإقصاء عليهم ولم تجادل في أنه باطل قانونًا وغير شرعي ديمقراطيًا بما يجعل ما تعرضوا له يدخل في الفعل السياسي المشروع لأنظمة الحكم التي يكتب الكتاب في ظلها مطمئنين إلى سلامة تحليلهم.
هناك كتابات علمية تبحث في أصل الظاهرة الاجتماعي وتركز على مبحث الهوية وقدرة السؤال الديني على ملء فراغ نفسي في مواجهة التحديث القصري الوافد من الغرب (الهوية)، ولكن في قمة التركيز على المنشأ الاجتماعي تغفل بقية التيارات التي جاءت من نفس المنحدر كأنها غير موجودة أو لا تشكل ظاهرة حقيقية للدرس.
لا حديث عن يسار عربي ديمقراطي أو عن تيارات قومية تؤمن فعلاً بالتعدد وترفض الانقلابات العسكرية، ولم يحرك الربيع العربي أي تيار نقدي لهذه التيارات بل ضاعف من حمى الكتابة عن الإسلاميين باعتبارهم عملاءً وخونةً وصنيعة مخابرات، وقد جاء الربيع العبري ليمنحهم السلطة دونًا عن كل الديمقراطيين العرب.
كتابات مطمئنة إلى مصادرها واثقة من نفسها تخلط الأماني بالتحاليل فتنتهي مشاريع تبرير للمجازر العسكرية في حق المدنيين ورابعة مثال.
الإسلاميون استفادوا من النقد
تسليط الضوء على الإسلاميين وجعلهم موضوع كل حديث سياسي وفكري وأكاديمي وفني لم يكن شرًا كله، بل كان لهم فيه خير كثير وقال قائلهم رب ضارة نافعة، فطور كثير من الإسلاميين أداءهم السياسي وراجعوا أطروحتهم الفكرية المؤسسة بناء على النقد اليساري الذي وجه لهم خاصة.
لم تكن المسألة الاجتماعية حاضرة في خطاب التأسيس عند أغلب الحركات الإسلامية إلى حين الثورة الإيرانية، فأضيف خطاب اجتماعي أقرب إلى خطاب الدولة الاجتماعية (الكافلة).
خف الحديث عن إصلاح الدين ونما حديث إصلاح المجتمع (وجب الانتباه إلى مسألة/أطروحة كلما ابتعد حديث الإسلاميين عن المصدر السعودي الوهابي للإصلاح الديني، اتسع أفقه الاجتماعي والسياسي نحو الدولة والمؤسسات ومال إلى اليسار).
كانت وحدة الأمة الإسلامية مقدمة على وحدة الأقطار العربية، فالعرب جزء من أمة إسلامية ولذلك كانت تقدم قضايا إسلامية على قضايا عربية وكان دعم الجهاد الأفغاني قبل تحرير فلسطين أكبر علامات ذلك، لكن تحت تأثير الخطاب القومي العربي عاود إسلاميون تركيز اهتمامهم على فلسطين وتعتبر حركة حماس إحدى ثمرات هذا التفاعل بين الإسلامي والقومي العربي (سبب ذلك مشكلة للقوميين لأن حماس الإسلامية سبقتهم إلى تحقيق نتائج على الأرض وهي ليست منهم فكأنما استولت على أصلهم التجاري تحرير فلسطين).
في الجملة قلّ أن يكتب الإسلاميون في نقد تجاربهم ولكنهم يقرأون ما يكتب عنهم ويتفاعلون في اتجاه تطوير أداءهم ولذلك نراهم يكسبون الأرض أمام خصومهم الفكريين والسياسيين. هذا مفيد للإسلاميين لكنه ترك انحرافًا فكريًا في مجمل الفكر السياسي العربي الحديث، إذ بقي الحديث في موضوع واحد على تيار واحد بينما غاب عنا نقد اليسار ونقد تجارب القوميين خاصة أنهم أكثر من حكم وفشل.
وجب التنبيه في النهاية إلى أن الذين يكتبون عن غيرهم يسترون عيوبهم بإظهار نواقص الآخرين وهو مهرب نفسي أكثر منه جهد فكري بناء، فليس أيسر من رؤية النقص عند الناقصين، وسيكتب يوم نقد عميق عن مرحلة فكرية قادها مرضى نفسيون قضوا حياتهم يعيقون غيرهم عن التقدم وقضوا على ذلك فتركوا خلفهم مكتبة عربية عوراء.
نون بوست