تدوينات تونسية

استثمار .. في المنسوب المتاح من الغباء !…

علي المسعودي

عادة ما تطرح الأحزاب مشاريع ورؤى للمستقبل.. ولكنّ الغالب على وعي عامة الناس أنه لا يرقى إلى ذلك الأفق.. ومن هنا يأتي دور رجال السياسة النبيل: الرفع من مستوى الوعي كي يُحسن المواطن الاختيار..
بهذا المعنى السياسي هو مناضل،
غير أن النضال يفترض جهدا، ونفَسا طويلا.. وعلى السياسي أن يعتصم بصبر فلاح، في انتظار موسم الحصاد..
في بلدنا الميمون، لم يعد هذا النضال مواكبا للعصر.. وكان على النخبة السياسية أن تبتدع أسلوبا جديدا، فذّا ومبتكرا… وكذا فعلت !.
لقد أدركت، بحكمتها الفريدة، أنّ أكثر الأشياء عدلا بين الناس هي صفة الغباء !.. وأنه ينبت طبيعيا في منابت الجهل.. وما أكثرها…
فلم علينا أن نتكبّد عناء محاربة الغباء، وفي وِسْعِنا الاستفادة منه ؟ لم الاستثمار المُكلف في الوعي، ومن السهولة بمكان الاستثمار في غيابه ؟..
وهكذا تحوّلت طبقتنا السياسية من النضال إلى الاستثمار…
وبالطبع كان عليها أن تعيد النظر أيضا في البرامج حتى تناسب مقدار الجهل لدينا، والمنسوب المتاح من الغباء !…
تُقام ثورة على نظام قديم، فيسارع هذا النظام إلى الاستثمار الأمثل للغباء التونسي، ويعود إلى الحكم وبين يديه “شرعية انتخابية” لم يحلم يوما بها..
تنشأ أحزاب وزعامات كالفطر، ويصل بعضها إلى سدّة الحكم، وليس لها من زاد في النضال سوى بيع الأوهام لشعب تنطلي عليه كل حيلة.. حتى حيلة شراء الأهرام !..
تُنْكب البلاد بسلطة، في عهدها مات الحرث وجاع النّسل.. ومع ذلك تُسارع العامة إلى الصناديق لإعادة الانتخاب !..
تتدحرج الطبقة الشغيلة إلى الهاوية المُرعبة في كل عام.. وتأبى مع ذلك إلا أن تعيد نفس الاختيار، وتنتخب نفس الوجوه البيروقراطية، ونفس الرعاة الذين أدخلوا الذئب إلى الزريبة في وضح النهار !..
ينهض مُدَّع ظلوم ليقول: أنا الواحد الأحد.. فينصرف الجميع عن آلهتهم ويخِرُّون سُجّدا وركوعا تحت أقدام هُبل !..
إن المرشح الذي يقدم برنامجا انتخابيا للتشريعيات أثناء تقدمه للرئاسيات هو مستثمر يراهن على رواج بضاعته المغشوشة لدى الرأي العام، مستقويا عليه بهرسلة مدفوعة من قبل وسائل الإعلام.
وإن المرشح الذي يعد بإدخال البحر إلى منطقة الجريد، أو بناء جسر يصل صقلية بباب الجديد هو مرشح له في مخزون الشعب من البلاهة ثقة عمياء وإن بالغ قليلا في تقدير احتياطيه من الغباء.
وإن المرشح الذي لا يجد حرجا في إعلان تبعيته لبن علي، ويتعهد بإرجاعه وأركان نظامه إلى المشهد السياسي، يراهن ليس على قصر ذاكرة الشعب فحسب، بل على فقدانها منذ وقت طويل.
وإن المرشح الذي يقرر خلع كل دعامة حزبية ترفده ثم يعلن عن نفسه بعد ضمان تزكية الزوجة والأبناء هو مرشح يراهن على غبائه الذاتي باعتباره جزء مطلوبا في خصال الرؤساء.
وفي الواقع، لا يقتصر نشاط سياسيينا على استثمار الغباء أو مشتقاته.. ولكنهم قد يتاجرون بصفة ثانوية في الهوية المحافظة والمنفتحة، وفي الارهاب المستورد والمحلي، وفي الأجساد الأنثوية، عارية ومحجبة… وفي كل الأشياء التونسية ذات الاستعمال المزدوج !..
إنها الحوكمة الرشيدة يا مولاي، والتصرف المحكم في مخزون الشعب من الغباء.. مع الحرص على تنميته، وزرع كل أرض بور من أجل استدامته !..
هذا هو معنى عبارة التجربة التونسية الفريدة !..
الغباء أفيون الشعوب بلا مراء..
والسياسي ليس سوى تاجر أفيون بلا ضمير ..!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock