لصوص السياسة ..
علي المسعودي
في الصحة الوقائية، يمكنك أن تنجح دائما في محاربة جيوش الفيروسات والميكروبات التي لا تُرى. أما في السياسة، فلا ينفع حذر من قدر، ستفشل غالبا في مقارعة جرثومة المال الفاسد، هذا العدوّ الزئبقي: يكون في مدى النظر، ولا تطاله قبضة البشر !
في بلدنا، احتاج المال الفاسد في البداية إلى أداة بعيدة التأثير. فكان الإشهار السياسي. واحتاج إلى خبير، حسن التدبير، فكان السيد نبيل القروي !.
•••
لقد سطا الخطاب الإشهاري على الخطاب السياسي في مشهد ما بعد 14 جانفي حتى أصبح بديلا عنه. وشيّأ مكونات الساحة السياسية حتى أصبحت قيمتها جزء من قيمة سوق الاستهلاك، وجزء من الحركة الربحية لرأس المال. وهو تحوّل خطير يكاد يذهب بكل المكاسب الهشّة التي حققها ربيعنا الثوري سنة 2011.
وقد ولغ الخطاب الإشهاري في دم السياسة حتى جرّدها من كلّ قيمها. فعل ذلك تحت مظلة تطوير خطابها وتنقيته من شوائب الطوباوية، والمُثُل المستحيلة، حتى غدت الخديعة الإشهارية هي جوهر العمل السياسي.. خديعة محكمة النصب، تستثمر في غبائنا واحتياجنا، في كبتنا وميولنا، وتبتعد بنا عن كلّ المُثُل.
بعد أن تحوّل الخطاب السياسي إلى جزء من خطاب السوق، أي تابعا لقوّة رأس المال، أصبح العمل السياسي في “نظامنا الديموقراطي” هو فنّ التلاعب بالمواطن والوطن، وآلية فعالة لاغتصاب حرية الأفراد واستعبادهم. إنه فنّ العنف اللّين الذي يأخذ منك كل شيء دون أن تتفطّن لأي شيء !.
وإذا كان الإشهار مرتبط وظيفيا برأس المال، شرعيّه وفاسده، فلا جدال في أنه لا يبتغي شيئا عدا الربحية، ولا يسعى جهده إلا إلى الاحتكارية. ومتى اصطبغ الخطاب السياسي بجينات الإشهار الاقتصادي فسيغدو مجردا من كل ضوابط أخلاقية بالضرورة، هذه الضوابط التي قد تحدّ من فاعليته، وتقف عائقا في طريقه… هكذا أصبح الخطاب السياسي في أيامنا بدون مضمون أخلاقي، حتى أثناء حديثه عن الأخلاق. ولا ينقص من قيمته أن تنعته بالكذب. فجوهره ممارسة فعل الكذب !. والخطيئة الحقيقية ليست في هذه الممارسة، بل في تصديقها .!.
ثم أدى هذا التحوّل العميق في الخطاب إلى تحوّل في المعنى لمفهوم النضال السياسي. فلم يعد يعني التضحية بالنفس من أجل المبادئ، ومن أجل خير الجماعة، بل التضحية بالجميع من أجل مغانم السلطة. هذا المعنى يتمّ نحته تدريجيا في اللاوعي بلغة مخاتلة حتى أصبحنا نسمع من ينعت المناضلين القدامي بخريجي السحون وفاقدي الأهلية السياسية !.
•••
من عالم الإشهار الاقتصادي دخل السيد نبيل القروي إلى عالم السياسة، دخل مسلحا بكل المعارف والتقنيات الحديثة التي درسها وخبرها كدارس وكرجل أعمال. وقد نجح في تحويل الخطاب السياسي إلى خطاب إشهار اقتصادي ناجع. بدأ بعرض خدماته على النظام السابق من خلال اقناعه ببعث قناة خاصة تكون أداة فعالة من أجل تطوير اللغة الإشهارية للنظام والتي كانت تعتمد على وكالة الاتصال الخارجي. ثم جاءت الثورة، فبرز السيد نبيل القروي كأكثر الوجوه تأثيرا في المشهد السياسي من خلال قناته أولا ومجموعة شركاته الإشهارية ثانيا.. واستطاع بفضل أدواته الإعلانية الترويج لبضاعة منتهية الصلوحية اسمها: الباجي قايد السبسي. فصنع منه في البداية رئيسا للحكومة، ثم رئيسا لحزب كبير ثم رئيسا للبلاد.. إنه أكثر الفاعلين في مشهد ما بعد 14 جانفي بلا مراء، وهو صانع الساسة وقاتلهم في نفس الوقت. عدو الحالة الثورية بامتياز، ومبيّض وجوه النظام السوداء بكل اقتدار.. حارب المنصف المرزوقي من خلال الإشهار حتى أسقطه من الحكم، وزيّن صورة السبسي حتى رفعه إلى قصر قرطاج.. واحتاج إلى زعامات صغيرة تخدم مشروعه فصنع من حمة الهمامي زعيما أرستقراطيا، ومعارضا نبيلا.. وهو تحوّل غريب في عالم اليسار الذي لم يقبل باللعبة الرأسمالية فقط، بل جعل من نفسه أداة من أدواتها !.
السيد نبيل القروي هو رجل الظل الحقيقي في السياسة التونسية. إنه وراء كل شيء. لقد كان أحد المهندسين الرئيسيين لفرانكشتاين النداء. ولما عجز عن احتوائه وتطويعه لأهدافه أثخنه بكل أنواع الشقوق حتى قضى نحبه. ومنذ ذلك الوقت قرّر أن ينتصب لحسابه الخاص وليس الغير.. قرر أن يبيع صورته بدل الآخرين، وأن يكون هو الرئيس !.
•••
إن أعظم إنجازات السيد نبيل القروي على الإطلاق هو أنه حوّل مضمون الإشهار السياسي من البرامج إلى الجسد. فأدوات التسويق اعتمدت أساسا على اللباس والجاذبية الجنسية لرجل السياسة. وقد تمّ استعمال المرأة -ككل مادة اشهارية- من خلال استحضار الخطاب التحرّري وتضخيمه. وليس غريبا أن لا يؤمن السياسي نفسه بهذا الخطاب. فلا يتعدى الأمر مجرد إشهار !
في مشهد ما بعد 14 جانفي لم توجد قط ممارسة سياسية، بل عقود اشهارية يتم تنفيذها وفق جدول متفق عليه ومعلوم.
وفي مشهد ما بعد 14 جانفي، هناك درس مستفاد: يمكنك أن تكتب أجمل الدساتير، وأن تخطّ أعظم القوانين.. ولكن لا فائدة من كل ذلك إذا كان بيتك تسكنه الذئاب والضباع وكل قاطع طريق.
لقد احتمينا بالنصوص، فدخل اللصوص… وهذه ملهاتنا !.