الفقراء كأصل تجاري انتخابي
سفيان العلوي
مات بورقيبة سياسيا عندما كف عن ان يكون أبا للتونسيين كما اراد او كما ارادت البروباغندا واصبح يوم ازاحته سريعا عيدا وطنيا. مات سياسيا عندما كف عن ان يكون “حنين يرد الخبزة بثمنين” بعيد جانفي 1984 كما رسخ في المخيال الشعبي. وبلغة اخرى كفت الدولة عن ان تكون راعية. ورافق صعود بن علي منعطف التكييف الهيكلي للاقتصاد “PAS” الذي افرز انعطافة بداية التسعينات وكان العنوان الاكبر لهذه الانعطافة هو انسحاب الدولة “le désengagement de l’Etat” كمنتجة وكراعية للفئات الضعيفة.
وغطت عن هذا الانسحاب هياكل تكافلية هجينة تحت سطوة مباشرة للدولة/ الحزب وابرزها صندوق 2626 الذي لم يكن شيئا اخرا سوى غطاء لهذا الانسحاب وتعزيزا للزبونية السياسية. وكان الفقراء والجهات المحرومة مادة خصبة لصيد المعونة الخارجية بعد ان ضاقت مصادر تمويل المشاريع الكبرى طويلة المدى. ولقد اجتهدت الدولة في الضغط على الاسعار والاجور معا وتوزيع الهبات مقابل الولاء والوشاية في كل ركن ضد المعارضين واسرهم. كان الخوف والطمع وقدر من الاحساس الوهمي بالوفرة يمتص الغبن الاجتماعي ولم يكن في الواقع سوى تاجيل لمداه الانفجاري واعادة توزيع له بين الجهات والطبقات.
لم تتاخر الثورة كحالة انفجار اجتماعي وانتفاضة سياسية وقد استجمعت شروطها منذ منتصف عشرية الالفين. ولا يتسع المجال لاعادة بناء سرديتها الان. لقد انهارت منظومة الرعاية/الوشاية التي كانت توفر مداخيل كسولة متواكلة لفئات واسعة من السكان ومن طبقات مختلفة قريبة من الدولة/ الحزب. وانهار معها اقتصاد الطاعة. لم يكن تعميم منح المعوزين والحضائر في بداية الثورة سوى مسكنات وتغطية لمشكلة اعمق ولمنوال ربوني يصعب تفكيكه او تعديله او تعويضه في المدى القريب.
سمح هامش الحرية الاستثنائي بل الانفجاري بتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية و دفع الدولة الى القبول بهامش اكبر للمجتمع المدني في التاطير والتمثيل الشعبي والقطاعي. وانطلقت موجة من السياحة التضامنية الرومنسية نحو تونس العميقة ثم موجة ثانية من الجمعيات الخيرية والتنموية الى حدود 2013 تقريبا. وكان التقبل متغايرا من مكان الى اخر لكن سرعان ما انقلب الى رفض جذري وحرقا للهبات ومهاجمة للقوافل الخيرية التي لا يفرق فيها الغالبية بين الدولة والجمعيات. وتجذر الرفض نحو مطالب تنموية عميقة لم يلق لها السجال الوطني المنشغل بالقضايا السياسية والمطلبية القطاعية وكتابة الدستور بالا. لقد كانت غالبية الجمعيات ونشاطها واجهات مدنية لعائلات حزبية وايديولوجية ولم تكن هذه الحساسيات تخفي رهاناتها الانتخابية. ورغم المجهود الميداني الهام فان توجسا عاما من الجمعيات زاده فقر الموارد المالية وانقطاع التمويل الخارجي والرقابة على النشاط وهو ما جعل هذه الموجة المدنية تخفت سريعا. والقت نتائج انتخابات 2011 بضلالها على حماسة هذه الجمعيات للمواصلة. بل ان بعضها كف نشاطه بناء على المزاج الانتخابي فعوقبت جهات باكملها بالوصم اولا وبكف النشاط الخيري ثانيا.
ياتي حدث الارهاب والاغتيالات والهزة التي احدثها في سلاسة الانتقال الديمقراطي والسياسي عامة ليعمق الوصم لعدد كبير من الجمعيات بانها غطاء للارهاب وقاد ذلك تدريجيا الى غلق عدد واسع منها. كما عمقت نتائج انتخابات 2014 من اداة الوصم ومن التنصل المعنوي والاخلاقي من مسؤولية المساعدة كشكل عقابي. وستجد اعداد واسعة من السكان والجهات نفسها ضحية سلوك عقابي انتخابي وحالة من نفض اليد الجماعية. هو الفراغ من جديد.
هنا بالضبط ستظهر “جمعية خليل تونس” (تاسست في 2012) وستتحرك لملئ الفراغ مستفيدة من حركة التضييق الامني على نشاط باقي الجمعيات ومن تسهيلات الدولة والعمد والمعتمدين ومن تدفق مالي مجهول المصادر ومن غطاء اعلامي كثيف ومدروس. لم تكن في الواقع سوى تمهيد لمشروع سياسي اكبر سيطرح نفسه بديلا عن شقوق حزب النداء الحاكم والفائز بالرئاسات الثلاث. واستطاع صاحب الجمعية عبر هذا العمل الخيري والسياسي والاعلامي صناعة شعبية لها رصيدها الانتخابي ولا شك. وحاول استغلال حاجة الناس من جديد كاصل تجاري انتخابي له وللمنظومة السياسية التي ينتمي اليها.
يبدو ان الامر يتجاوز السجال الظرفي حول استغلال حاجة الناس كمطية انتخابية ليطرح بعمق ضرورة تجاوز المنوال الزبوني في التعامل مع الفئات والجهات ذات الهشاشة والعزلة وتجذير الوعي نحو اقتصاد اجتماعي يتجاوز الصيغة العطائية للتنمية العابرة الى الاعتراف بالوظائف الانتجاية لهؤلاء السكان ومساعدتهم على البقاء حيث ما ارادوا وتنمية قدراتهم الذاتية وتحرير الذهنية من الكسل والتواكل وتجذير الكرامة.