أبو حامد ..

علي المسعودي

لا أذكر أني بادلته يوما سلاما أو كلاما.
ولم تكن صبيحة هذا العيد لتخرق ما اعتدنا عليه. لمحته من باب الاتفاق أمام منزله وهو يحمل كيس القمامة. ألقى عليّ نظرة خاطفة وعلى الكيس ثم واصل طريقه، لكأنه يريد التخلص من نظراتي ومن الكيس معا.
غير أن تلك النظرة المتبرّمة كل ما مرّ أحدنا بالآخر كانت تخفي صداقة حقيقية بدأت حتى قبل أن نتساكن نفس الحيّ !.
كان يكنّي نفسه “أبو حامد” في صفحته على الفايسبوك. ولم أسأله يوما عن اسمه الحقيقي.
وكنا كثيرا ما نتجادل في مسائل مختلفة على صفحات التواصل الاجتماعي، وكثيرا ما اتفقت آراؤنا السياسية والاجتماعية، وحتى الفلسفية. وأجده انسانا متشعب الثقافة، حكيما وجديرا بصداقتي.
كان أول من هنّأني بالعيد على المسنجر. ثم تحدثنا طويلا عن الأحوال والعائلة وأثمان الأضاحي قبل أن يودّعني بسبب انشغاله الصباحي.
أنا أيضا انشغلت بأشياء كثيرة هذا الصباح، كان عليّ أن أردّ على التهاني الكثيرة التي ازدحم بها حسابي. بدأت أوّلا بإخوتي وأهلي الذين يقطنون بالعاصمة، ثم أهل زوجتي ومعارفهم. وإحقاقا للحق، كانت الردود متعبة وتأخذ كثيرا من الوقت، فاكتفيت بأن أخذت تهنئة من أحد أصدقائي رأيتها مناسبة وأرسلتها للجميع، بما في ذلك زوجتي الجالسة في الصالة، وأختي التي تسكن في الحيّ القريب منّا.. من منّا يستطيع الخروج في هذا القيظ لمجرد التهنئة وتبادل القبل ؟؟!
ومع ذلك لم أمنع نفسي من الدخول في سجالات متفرقة مع أصدقائي الفايسبوكيين -وأنا لا أملك غيرهم في الحقيقة- حول أهمية هذه المناسبة ودورها في التقريب بين الناس وتواصل الأرحام، ولم يفتني أن أنقد بشدة ظاهرة رمي فضلات الأضاحي كيفما اتفق حتى أصبحت المدن الكبيرة أشبه بالمسالخ المتعفنة. وضربت مثلا عن نفسي، ففي يوم العيد أتجشّم مشقة حملها إلى خارج المدينة في رحلة تستغرق نصف ساعة كاملة بالسيارة..
كنت أكذب بلا شك. ولا أجد حرجا في هذا الاعتراف. فأنا لا أملك سيارة، ولا حتى أضحية العيد ! غلاء المعيشة قد قصم ظهري وظهر مرتبي، ولم يعد بامكاني احتواء مصاريف المناسبات المتعاقبة. فاكتفيت ببضع أرطال من اللحم.. في انتظار ظروف أفضل.
كنت أعلم أن جاري “أبو حامد” وحده يعرف هذه الحقيقة. وكنت أعرف أيضا أنه كذب بدوره بشأن الإضحية. ففي بروفايله، مررت على صورة خروف سمين وقد علّق تحته: نعم. لقد ارتفعت أثمان الأضاحي، ولكن فرحة الأعياد ليس لها ثمن !.. تصوروا ! لقد دفعت من أجله خمسمائة دينار!… ولكني على يقين من أن هذه الصورة قد رأيتها من قبل. كما أن كيس القمامة الذي خرج به هذا الصباح لا يحمل فضلات الأضاحي.!
••
عدت إلى البيت ثم أغلقت هاتفي حتى يظن الجميع أني منشغل بذبح الإضحية وسلخها وتقطيعها والاستمتاع ببعض الخصوصية أثناء العيد. جهزت زوجتي ما يلزم لشي تلك الارطال القليلة وأخذنا نتابع صلاة العيد -للمرة الثانية- بجامع مالك بن أنس. كان المشهد غريبا بعض الشيء.. فقد بدا لي أن رجال الدولة الواقفين في الصف الأول بجبابهم اللامعة قد تحوّلوا إلى شيوخ معمّمين.
بعد أن تناولت نصيبي من الشواء أحسست بخدر يعمّ جسدي وبرغبة في النعاس.. استسلمت أخيرا لإغفاءة قصيرة. ورأيت فيما يرى النائم صلاة العيد في قرطاج للمرة الثالثة.. ورأيتني واقفا في الصف الأول مع الواقفين، و”أبو حامد” قد تقدمنا إماما، وأسمعه لأول مرة وهو يتلو سورة الغاشية بصوت غريب، لا يشبه أيّ تلاوة !.

Exit mobile version