عيد… بما مضى أم فيك تجديد
فتحي الشوك
عيد بأيّ حال عدت يا عيد … بما مضى أم فيك تجديد
هكذا عبّر الشّاعر الفذّ أبو الطيّب المتنبّي، متحسّرًا على زمن جميل مضى بغير رجعة كمن فارق أحبّته ولن يعود، كتب ذلك في زمن تفكّك الخلافة العبّاسية وظهور الدّويلات الطّائفية المتصارعة والمتنافرة، وكان ذلك منذ ألف سنة أو يزيد، وهكذا حالنا اليوم بل أسوأ إذ يبدو أنّنا تجاوزنا قاع الحضيض لنكرّر ما قاله أبو الطيّب ونعيد: عيد بأيّ حال عدت يا عيد؟ فالأوطان ممزّقة والشّعوب ضائعة والعقول حائرة والأرواح شاغرة، والنّفوس تائهة، أضاعت بوصلتها لا تعرف لها مستقرًّا ولا تدري ما تريد.
بين عيد وعيد، نزداد تمزّقًا، فرقة وتفتّتًا، وتمتدّ إلينا الأيادي من قريب ومن بعيد ومنًّا القدْر ومنّا النّار ومنّا الوقود، ومنّا الماء ومنّا الملح ومنّا الطّحين ونحن الثّريد، وتراهم يتهافتون علينا فما شبعوا منّا بل يطلبون المزيد.
بين عيد وعيد، تصحو فتنة بعد إن تنام أخرى، ويتغيّر جلد الأفعى وتتوالد فينا النّكسة، ويروّج كوجهة نظر للخيانة والخسّة ويمرّر ذلك على أنّه أمر مراد كالقضاء والقدر وتضاريس البلاد وأن لا مفرّ من أن يكون المرء للمراد مريد.
بين عيد وعيد، تصبح الخيانة فخرًا فيؤتمن الخائن ويصبح للأوطان ذخرًا، يقدّم الكذوب ويكذّب الصّادق، وتعلو أصوات الحمقى لتغيب أصوات الحكمة وكلّ ذي رأي سديد.
بين عيد وعيد، تسمع كلّ يوم غريبة، مضحكات مبكيات عجيبة، من يزيّف التاريخ ويكتب على مقاس غروره ويمارس في الخصومة فجوره، من يحرّم التّعاطف مع الشّقيق ويمنع الحجّ على الصّديق ويفتح للعدوّ الطّريق، من يشعل النّيران أينما حلّ في شام الخير حيث استقرّ الشرّ وفي اليمن الّذي يكنّى بالسّعيد، أرواح تزهق ودماء تسيل باسم الدّين والتوحيد لأجل الملك العتيد فيطبّل المتفيقهون ويتراقصون، فأمر السّلاطين طاعة ولو كانوا مراهقين أو حتّى في سنّ الرّضاعة ولو هتكوا عرضك أو فتكّوا بأرضك أو جعلوك بضاعة أو أمسكوك بقبضة من حديد.
بين عيد وعيد، تمتلئ بالأحرار السّجون وتفيض بالدّموع العيون، وتطارد الفكرة وكلّ دعوة للإصلاح أو التغيير ويصبح الحلم تهمة وتصبح أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا أن تكون رقمًا في قطيع العبيد، أو مطاردًا، محاصرًا، سجينًا، منفيًّا أو شريدًا وربّما حينما تتجاوز الحدود قد تتحوّل إلى مخفيّ قسريّ أو شهيد.
بين عيد وعيد، تترهّل الأجسام وتتكلّس العقول ويصبح الحسّ بليدًا. بين عيد وعيد، يغيب الفعل عنّا، ويسحب القرار منّا، «فنعيب الزّمان والعيب فينا» فما عملنا وما سعينا، وكلّ ما صدر منّا: ثرثرة وجدل عقيم لا يغني ولا يسمن من جوع، يضرّ ولا يفيد. بين عيد وعيد جراح جديدة، وجع مزمن وضيق شديد.
بين عيد وعيد، لا تستغرب إن ظهر الشّيب في رأس الوليد وتكون صرخته الأولى : «أن أعيدوني من حيث أتيت، أيّ عصر هذا، عصر التوحّش والجليد». بين عيد وعيد، تزداد الصّورة قتامه، تتوسّع مساحة الرّداءة، فينتصب اليأس فينا ويصبح الأمل بعيدًا. بين عيد وعيد، يكاد اليأس يتمكّن منّا لولا رحمته، فضلا ومنّة، لنتذكّر ونذكر فنبعث من جديد.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الآية 53 من سورة الزّمر).
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (الآية 87 من سورة يوسف).
بين عيد وعيد، نستلهم من سيرة المصطفى الحبيب لنتّخذ من هديه سراجًا منيرًا في عتمة اللّيل البهيم، نستحضر عام الحزن، هزيمة أحد وحصار الخندق وكيف نصر الله عبده وهزم الأحزاب وحده، وهو فارج الهمّ كاشف الغمّ، نصير المستضعفين ومجيب دعوة المضطرّين، قادر قدير، فعّال لما يريد.
بين عيد وعيد، نكاد ننهار ونسقط فنتذكّر صبر أيّوب وسجن يوسف ويونس في بطن الحوت ونار إبراهيم ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود، فنحمل على أكتافنا أوجاعنا ونلملم جراحنا، وندوس على الجمر بأقدامنا لننهض ونحاول السّير من جديد.
بين عيد وعيد، ومع بلوغ الظّلم حدّه، نعلم أنّه إلى زوال وسينقلب حتمًا إلى ضدّه، ومع اشتداد الظّلام مهما طال سيتبعه صبح قريب، ذاك أكيد.
بين عيد وعيد، اثبتوا أيّها الأحبّة، فما ترونه بعيدًا قد يكون قريبًا، وقد يعود العيد عيدًا، اسم على مسمّى، عيد سعيد وعمر مديد في طاعته ومحبّته، وليس ذلك على الله ببعيد.