سيناريو خيالي قد يكون الوحيد الدال على رشد السياسة في تونس

أبو يعرب المرزوقي

سأتخيل النخب التونسية -بعد ثمان سنوات من التجريب وبعد ستين سنة من التخريب غير القصدي لأني لا أشكك في النوايا- بسبب الجري وراء الإيديولوجيات دون استراتيجية للتنمية الاقتصادية بشروطها العلمية والتقنية بدأت تدرك ضرورة ترشد الفعل السياسي على الأقل حتى تتدارك ما فات بلادنا إذا قسناها بما يماثلها من البلاد التي استقلت في نفس التاريخ ولم تكن حينها أكثر استعدادا للنهوض من تونس.
فماذا يمكن أن تكون علامات هذا الرشد طبعا في سيناريو خيالي لا اعتقد أن النخبة التونسية مستعدة له:
• المسألة الأولى:
أولى علاماته التخلي عن تفتيت القوى السياسية: فلا يوجد بلد له نخب راشدة يمكن أن يكون فيه 220 حزبا كلنا يعلم أنها لا تحتوي على أكثر من عدد مكوني الحزب أي ممن يعانون من عقدة الزعامة: كلها عسكر مكسيكي. وأقصد خاصة الاحزاب التي يتوهم أصحابها أنهم خلقوا ليكونوا رؤساء دون أن يكون لهم شرطا الفعل السياسي: أعنى القاعدة أو القوة السياسية و”الكاريسما” أو الخصال الشخصية المؤهلة لتمثيل الجماعة وخاصة قيمها الأساسية.
• المسألة الثانية:
ومن ثمرات هذا التخلي المباشرة في المناسبة الحالية تخلي أكثر من 99 في المائة من المرشحين للرئاسة عن وهم أهلية الترشح لها بكل معاني الأهلية. والأهلية السياسية ذات بعدين شخصية وأداتية والأولى تتعلق بالكاراكتار والاخلاق. والثانية تتعلق القاعدة الشعبية والاجتماعية للقوة السياسية. فالشخصية هي وزن المترشح في الرأي العام الشعبي. وجلهم نكرات أو عرفوا بعدم الجدية. ولا يمكن لمن يترشح وليس له هذان البعدان أن ينجح لأن السياسة ليست دقازة.
• المسألة الثالثة:
ومن ثمراتهما غير المباشرة هي أن يصبح لتونس على أقصى تقدير خمسة أحزاب يحددها طبيعة الفعل السياسي في جماعة حرة:

  1. الفعل الذي يركز على إنتاج شروط القيام وهو الحزب الذي يقدم شروط إنتاج الثروة والتراث وعادة ما يسمى بالحزب الرأسمالي أو اليميني.
  2. والفعل الذي يركز على شروط توزيع الثروة وعادة ما يسمى بالحزب الاشتراكي أو اليساري.
  3. تبين الأول أن ذلك مستحيل من دون شيء من الثاني وهو يسار اليمين.
  4. تبين الثاني أنه ذلك مستحيل من دون شيء من الأول وهو يمين اليسار.
  5. الحزب الانتهازي أو حزب الوسط الذي يميل حيث تميل ريح حظوظ النجاح في الوصول إلى الحكم. وأكثر من 90 في المائة من الاحزاب التي نتجت عن تشتيت السياسية بعد الثورة هي من هذا النوع الخامس.

ولذلك فكل ما عدى ذلك من القوى السياسية سخافة وهو في الحقيقة ليس من السياسة في شيء بل هو “أصل تجاري” يخادع صاحبه الشعب ونفسه قبل الشعب. وغالبا ما يكون مجرد خلية مخابراتية لإفساد عمل القوى السياسية السوية.
• المسألة الرابعة:
وفي حالة تونس اعتقد أن القوة السياسية التي تمثل يسار اليمين هي الحزب البورقيبي وكان من الخطأ حله وينبغي أن يعود. وهو نصف الحركة الوطنية الذي كان همه التحديث فصار على التأصيل الذي يمثله الثعالبي. وآن أوان مصالحة البورقيبية مع التأصيل للوصول إلى حل معقول بين ثقافة الشعب وثقافة النخبة الحداثية. وفي حالة تونس كذلك أعتقد أن القوة السياسية التي تمثل يمين اليسار هي الحزب الإسلامي وكان من الخطأ ان تجعل الاجتهاد البورقيبي عدوا لأن الإسلاميين بدأوا يفهمون أن التأصيل ينبغي أن يتصالح مع التحديث وآن أوان السعي للصلح بين شقي الحركة الوطنية في التحرير ليكونا شقيها في التحرر إما بالتعاون والحكم معا حتى يستقر الوضع فيصبح التداول بينهما ممكنا سلميا.
• المسألة الخامسة والأخيرة:
فإذا تم ذلك يصبح من حقنا أن نسأل ما مواصفات المرشحين من هذين الحزبين اللذين لهما المقومات الشخصية لأن الشرط الثاني أي القاعدة تقريبا متساوية بين القوتين السياسيتين هذين:
1. هل لو فصلنا بين الدكتور الزبيدي وما قد يوهم به من يعتقده ممثلا للجيش يمكن أن نجد الصفات الشخصية التي لأجلها يمكن أن يعتبره الحزب البورقيبي ممثلا لرؤاه؟
لا أعلم الجواب لأن معرفتي بالرجل سطحية. وكل ما أعلمه أنه رجل نزيه معتدل ووطني بما لاحظته من موقفه من أشياء كثيرة خلال جلسات مجلس الوزراء.
2. هل لو فصلنا الأستاذ مورو وما قد يوهم به من يعتقد أنه مجرد ورقة لحل مشكل داخل النهضة يمكن أن نجد فيه الشخصية التي لاجلها يمكن أن يعتبره الحزب الإسلامي ممثلا لرؤاه؟
يمكن أن ادعي القدرة على الجواب لأن معرفي بالرجل أمتن من معرفتي بالدكتور الزبيدي. لكن لن أقدم الجواب. سأكتفي بالقول إنه إن نجح في إثبات ذلك سيكون رئيس تونس المقبل إذا عمل شقا الحركة الوطنية ما اقترحته منذ الحملة الانتخابية الاولى التي كنت فيها مرشحا لدائرة تونس الاولى. فمن دون الصلح بين الثعالبي وبورقيبة رمزي للحركة الوطنية في حرب التحرير ليكونا رمزين لها في حرب التحرر لا يمكن لتونس أن تستقر وستبقى ريشة في مهب رياح المافيات التي ابتدعت اصولا تجارية لتركب السياسة من أجل المال ولا شيء يحول دونها وخدمة الشيطان إن دعت الحاجة.
وسأختم هذا السيناريو الخيالي ببعض الإشارات إلى سخافات بعض السياسيين:
1. أولا الكلام على الاعتدال السياسي: لا يوجد سياسي لا يكون معتدلا في الحكم ومغالبا في المعارضة إلا إذا كان أحمق لأن منطق الحكم هو المحافظة على ما لديه ليبقى وهو يستطيع الاغراء بالأفعال ولا يفسد على نفسه بالأقوال ومنطق المعارضة هو المطالبة بما ليس لديه فيحاول الإغراء بالأقوال ما لا يستطيع بالأفعال.
2. الكلام على الحداثة التنويرية والإسلام الظلامي: فهذه المقابلة في الأقوال غالبا ما تكون عكسها في الافعال. فلو قارنا تاريخ الأنظمة العربية خلال القرن العشرين لوجدنا أن من حكم هم أدعياء الحداثة والتنوير وقلما حكم أحد باسم الإسلام إذ حتى من قيل إنهم منه كانوا في النهاية مضطرين لتقليد أولئك إما بسبب الوضع الاقليمي أو بسبب الوضع الدولي. وكل من حكم العرب في القرن الماضي كانوا فاشيين باسم الحداثة إما الغربية أو الشرقية أي إما الرأسمالية أو الاشتراكية دون رأس مال ودون اشتراك.
3. تونس على الاقل لم يحكمها إسلام منذ الاحتلال الفرنسي حتى لو سلمنا ان النظام كان إسلاميا قبله. فما نتيجة التنوير؟
نتيجة واحدة: صار الحداثيون التونسيون أكثر احتقارا للشعب من المستعمرين أنفسهم فهم يعتبرونهم “انديجان” وظيفتهم تحديثهم رغم أنفسهم بسلخهم من حضارتهم وفرض الفرنسة توت ازيموت.
لما تقارن الآن النخب الإسلامية التي توصف بالظلامية بالنخب الحداثية التي توصف بالتنويرية في تونس وفي كل بلاد العرب ماذا تلاحظ؟ أن “الراكاي” هي التي تدعي الحداثة لأن من يسمون مثقفين بينهم هم إما قوادة العسكر أو قوادة القبائل بحسب الانظمة العربية ثم بينهم من يكون تابعا لتوابع إيران أو تابعا لتوابع إسرائيل من أنظمة العرب.
4. لو تجرأ أحد وطالب حداثيي العرب أن يقوموا بمقارنة بسيطة بين تونس وماليزيا مثلا أو بين مصر وتركيا أو ناهيك عن مقارنة العرب باليابانيين لما استطاع أحد منهم فتح “بؤه” بالمصري.
5. وأخيرا ففي ذلك علة العلل لموقفهم من تركيا وماليزيا اللتين تمكنتا بعد التخلص من التنكر لثقافة الشعب من تحقيق معجزات هي التي تحرجهم فتجعلهم لا يستطيعون مواصلة مخادعة أنفسهم.

Exit mobile version