فتحي الشوك
اتّجهت الأنظار إلى مدينة الحمّامات التونسية حيث عقد مجلس شورى حركة النّهضة اجتماعا استثنائيّا يوم 3 أغسطس 2019 لتدارس خطط الحزب الّتي سينتهجها في سباق الانتخابات الرّئاسية السّابقة لأوانها والمزمع إجراؤها يوم 15 سبتمبر 2019.
اشرأبّت الأعناق وتطلّعت العيون ترقّبا لتصاعد الدخّان الأبيض وانتظر الجميع الكشف عن اسم ذاك العصفور النّادر ليؤجّل الحسم إلى يوم 6 أغسطس وقد يؤجّل إلى موعد لاحق لحظات قبل أن يقفل باب الترشّحات.
هي خيارات صعبة أحلاها مرّ، فما هي تلك الخيارات وما تبعاتها على الحركة وعلى التّجربة التّونسية النّاشئة؟
انتخابات رئاسية سابقة لأوانها:
تعتبر التّجربة التّونسية، برغم تعثّراتها وهناتها، ناجحة نسبيا مقارنة بتجارب أخرى، راسمة نقاط ضوء في العتمة وبارقة أمل في مناخات اليأس والفشل.
تجربة كانت مرمى لسهام المتآمرين فأثخنت جراحا وأنهكت وعرقلت حتّى كادت تسقط غير أنّها صمدت وتقدّمت باحتشام وبطء شديد والأهمّ أنّها بقيت تتنفّس برغم كلّ محاولات خنقها.
هي الانتخابات الرّئاسية الثّانية الّتي ستجري بعد ثورة 17 ديسمبر المجيدة، انتخابات حقيقيّة لا يعلم نتيجتها إلاّ بعد إجرائها برغم كلّ الشّوائب الّتي من الممكن أن تشهدها وهي مختلفة بالكامل عن تلك المناسبات الانتخابية الكرنفالية الّتي تحييها دكتاتوريات صحراء التوحّش العربي من أجل البيعة والتمديد.
انتخابات سابقة لأوانها وقع تقديم ميعادها بعد وفاة الرّئيس محمد الباجي قائد السبسي رحمه الله، فتح باب الترشّح للجميع بعد أن كان مجرّد التّفكير في قصر قرطاج قد يجعل من يتجرّأ على ذلك نسيا منسيّا، ولو أنّ ما نشهده من غثاء السّيل وإسهال الترشّحات يوحي بأنّهم يريدون ترذيل المناسبة كما فعلوا للثّورة ولكلّ المعاني الجميلة.
من بركات الثّورة التّونسية نعمة الحرّية كقيمة أساسية في طريق بناء الإنسان، قيمة ساميّة يسعى البعض إلى تدنيسها قصد العودة إلى مربّع العبوديّة والاستبداد وإسطبل الدّواب.
ومن انجازاتها دستور توافقي مكّن الفصل بين السّلطات ووزّع ثقل السّلطة بين البرلمان والحكومة والرّئاسة ممّ مثّل عائقا ومناعة أمام نيّة أو مشروع انفراد بالقرار أو استبداد.
كان الانتقال السّلس للسّلطة عقب وفاة الرّئيس محمّد الباجي قائد السبسي والّذي أبهر العالم هو نتيجة مباشرة لثورة عربة الخضروات ولدستورها، كما أنّ هرولة العديدين لتقديم ترشّحاتهم للرّئاسة وكلّ هذا الزّخم والحركة والحياة هي من ثمراتها وهم يتدافعون لقطفها ويتلذّذون بأكلها مع أنّهم يلعنونها ليلا نهارا.
أربك تقديم الانتخابات الرّئاسية على التّشريعية حسابات الجميع بما فيهم حزب حركة النّهضة باعتباره فاعلا أساسيا ومؤثّرا في السّاحة السّياسية وهو مطالب باتّخاذ موقف خطير له تبعاته على المدى القريب والبعيد.
ماذا لو تقدّمت النّهضة بمرشّح من داخلها:
يعتبر حزب حركة النّهضة أكبر فصيل سياسي ناشط والأكثر تنظّما وانتشارا وانضباطا، وهو لا يزال ضمن طيف الإسلام السّياسي حتّى بعد إعلانه قطع الدّعوي عن السّياسي وسيبقى كذلك حتّى لو أعلن إلحاده أو غيّر جلده وسيبقى الانتماء إليه عقائديا بما جعله ويجعله يحافظ على كتلته الصّلبة، كتلة انتخابيّة شبه ثابتة بإمكانها أن تؤثّر في نتيجة أيّ انتخابات كانت.
آخر عمليّات سبر الآراء (الموجّهة والمفتقدة لبعض معايير الموضوعيّة) تكشف عن أنّ نسبة نيّة التّصويت لحزب حركة النّهضة هي في حدود 15 في المائة وقد تصل إلى 25 في المائة في حالة العزوف الانتخابي.
نسب محترمة وهامّة إذا ما علمنا مقدار التشرذم والتشتّت الّذي تشهده الأطراف المنتسبة للمنظومة القديمة أو تلك المرتدية لعباءة الثّورة، حيث أنّ أكثرها حظّا لن يحضى بأكثر من 10 في المائة كنسبة نيّة تصويت.
إذا ما اختارت النّهضة أن ترشّح أحد أبنائها والكثيرون منهم لا تعوزهم الكفاءة فهي قد تمكّن من ترشّحه لتجاوز عتبة الدّور الأوّل ليسقط ضرورة في الثّاني أمام أحد المرشّحين الّذي من المنتظر أن تفرزه ماكينة المنظومة السّابقة.
وفي نهاية المطاف ستكون كأرنب سباق أو كملاكم يحشر نفسه في الزّاوية وفي حلبة المنافس ليتلقّى الضّربات من كلّ جانب، من ملاكمين لا يلتزمون بقوانين لعبة “الفنّ النّبيل” أمام أعين حكّام يفتقدون للحياد وبحضور جمهور بعضهم سيشجّع بحماسة وينتظر سقوطا مدوّيا وضربة قاضية.
لا تكفي العنتريّات والمواقف المتسرّعة والعواطف الجيّاشة المتشنّجة والّتي قد ينتشي بها البعض لبعض اللّحظات ليكتشف بعدها النّكسة والتّبعات، هزيمة نفسية لها انعكاساتها الخطيرة على باقي المشوار والخطوات وخصوصا الانتخابات التشريعية الّتي هي أولوية الأولويات.
ماذا لو دعمت النّهضة أحد “الثّوريين” ؟
وفي هذه الحالة من ستدعم وقلوبهم شتّى وكلّ يغنّي على ليلاه لتسمع جعجعة ولا ترى طحينا؟
تشرذم وزعامتية مقيتة وتشتّت وتشتيت للأصوات ولا أحد من المنتسبين للثورة أو الحاملين لشعاراتها ينوي التّنازل للآخر مع أنّ أغلبهم يشتركون في المشروع والعنوان.
كان بإمكان أطياف “الصفّ الثّوري” أن تتوافق على الدّكتور المرزوقي باعتبار إشعاعه وعلاقاته أو على أيّ من الشّخصيات الاعتبارية المترشّحة الأخرى لتدخل المعركة بقوّة وازنة، لكن يبدو أن لا أمل في ذلك ليستبعد أن تراهن النّهضة على أحدهم أو أن تضع بيضها في سلّته في غياب السّند الشعبي الضّروري والطّوق السياسي الضّامن.
وهي في هذه الحالة إن غامرت كمن يطلب من أهله أن يركبوا مركبا صغيرا بلا محرّك ولا شراع ولا بوصلة أو اسطرلاب ليغرق الجميع في بحر هائج لا ترحم أمواجه المتلاطمة من لا يحسن السّباحة والإبحار.
هي البراغماتية والمنطق الّتي تمنع المرء من الانجراف في رهانات عبثية خاسرة بعيدا عن الطّوباوية والانطباعات العاطفيّة الموتورة والمتشنّجة ونظريّات الحروب المقدّسة والفرقة النّاجية المنصورة.
وفي صورة حصول المعجزة فان ساكن قرطاج الجديد سيكون معزولا في قصره مشغولا بصدّ السّهام الّتي ستطاله من كلّ صوب وقد يجبر على التّضحية بمن أوصله وتقديمه قربانا للضّباع المحيطة.
ماذا لو ساندت النّهضة أحد وجوه المنظومة القديمة ؟
تستعدّ المنظومة القديمة من تعتقد أنّها تمتلك حصريا جينات الحكم لاستعادة ما تعتبره حقّا اغتصب منها ذات 17 ديسمبر، هي محاولة لإعادة التشكّل كان للنّهضة دور في تسهيله وتمريره، لكن المتمعّن جيّدا في المشهد يكتشف أنّ بذاك التّوافق التّكتيكي أمكن لها كبح سرعة المرور إلى الشّكل الأكثر توحّشا بطريقة ترويض الأفاعي وعلى إيقاع الرّقص مع الّذئاب.
من الأرجح والأقرب للمنطق والعقل والواقع أن تساند النّهضة أحد منتسبي وخرّيجي المنظومة القديمة الّتي كمنظومة الصفّ الثّوري لم تتّفق على مترشّح بعينه وهو ما يسمح لها بالمناورة ومساحة لحرّية الاختيار وفق قاعدة دفع الضّرر ومبدأ الأقلّ سوءا.
ويبقى الالتزام بالمسار الدّيمقراطي وبدستور الثّورة وبقيم الحرّية واحترام التنوّع والاختلاف هي من سترشّح كفّة هذا على ذاك مع ضرورة الانتباه لمشاريع الاستبداد الكامنة، إلى جانب تحييد وتقليم أظافر الاقصائيين والشّعبويين والمتحيّلين والفوضويّين، إذ ما زالت حركة النّهضة في مرحلة ترسيخ وجودها وهي بذلك ترسّخ لكلّ التّجربة التونسية حتّى يشتدّ عودها وتصبح عصيّة على الوأد وتحقّق أهدافها ووعودها.
يقول الأستاذ المفكّر منير شفيق في هذا الصّدد: “في مطلق الأحوال أرى من الخطأ المنافسة على رئاسة الجمهورية ومن الأفضل أن لا تكون لها الأغلبية البرلمانية إلاّ ضمن تحالف عريض”
وفي الختام أرى أنّه من الأفضل حاليا تأجيل الحسم في المرشّح المحتمل إلى آخر لحظة قبل إقفال باب الترشّحات وإن استحال التّوافق الجدّي والمثمر فمن الأجدى ترك هامش الحرّية لقواعدها في الدّور الأوّل لتعيد التّقييم وتحيين الموقف على ضوء نتيجته لتدعم في اللّحظة الحرجة الأقلّ ضررا لها ولتجربة الانتقال الدّيمقراطي.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.