هَمَمْتُ ولمْ أفعَلْ …
علي المسعودي
مع كل محطة سياسية فارقة، يسود الاعتقاد بأن الاتحاد العام التونسي للشغل ما كان إلا جزء من فعل النكوص على الثورة، وأنه مسؤول بقدر الطبقة السياسية أو أكثر عن هذا الحضيض.
لقد بات واضحا أن فضاء الاستبداد هو ملعب البيروقراطية النقابية المفضل، ملعب لا حَكَمَ فيه إلا توازن القوى.. وفي هذه الأرض البعيدة عن الزلازل والمفاجآت، تكون البيروقراطية في كامل عتادها واستعدادها: فهي المنظمة النقابية العتيدة والوحيدة، وهي المعارضة وإن شاءت حصان طروادة، وهي المدافع عن حقوق العمال، ورافع لواء الحريات وحقوق الانسان.. وأمام هذه القوة الكامنة كانت السلطة مضطرة في الغالب إلى عقد التوافقات، وشراء الذمم بالامتيازات. وكانت المكاسب أكبر من أن تحصى، بينما ترضى الطبقة الشغيلة بالفتات مغموسا بالتراب والحصى !.
كان العهد البورقيبي هو ذروة جاهها ومجدها، وكان عهد بن على هو حقبة زواجها. وكان زواجا عرفيا، مليئا بالخصومات الصغيرة والعراك، ولكنه لم يخل يوما من الهدايا الثمينة والاقطاعات !. إنه العصر الذهبي لبيروقراطية نقابية لم تخجل من مخاصمة السلطة ومناشدتها معا !.
غير أن رياح الثورة كانت قاسية وعاصفة. ولم تجد البيروقراطية ما تفعل غير مسايرة الجميع، ولكنها فقدت من زخمها وقوتها الشيء الكثير. لقد أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابا عاما يتيما خلال نصف قرن فاهتزت له أركان البلاد. بينما احتاج خلال هذه العشرية إلى هذا الإعلان مرات ومرات من أجل مجرد إثبات الوجود.
الديموقراطية هي عدو صريح للزعامات، وأيضا البيروقراطيات !.
لا يحب الاتحاد العام التونسي للشغل تعدد الاحتمالات السياسية. وعليه فهو من الناحية الموضوعية عدو للممارسة الديموقراطية التي تتأسس على هذا التعدد ذاته. ذلك أن تجذّر هذه الممارسة في نسيجنا السياسي سيذهب بكل عناصر قوته التي بنى عليها تاريخه الممتزج بكل ألاعيب السياسة. انظروا إلى اصطفافاته السياسية وستجدونه أقرب إلى المنظومة القديمة منه إلى رموز التغيير، انظروا إلى تحالفاته العلنية وستجدونه سندا مضمونا لوجوه الفساد ومراكز القوى !.
•••
في ظل هذا الواقع الجديد، مازالت البيروقراطية النقابية تخشى من المستقبل ويملأ قلبها الخوف والقلق. هي تخشى أن يسحب البساط من تحتها نهائيا لتعود منظمة عمالية خالصة، وهو أكثر شيء تكره فعله !.
لقد نسيت تماما هويتها كطرف اجتماعي، ولكنها لم تنس أبدا الاستثمار في شعارات الحركة الاجتماعية وتجييرها لكسب المعارك السياسية في ظل وهن قاعدي يصيبك بالخبل!.
ومنذ بواكير الثورة ظلت تبحث عن أدوار سياسية تبقيها قريبة من دوائر الحكم. فهي تلعب أحيانا دور الوسيط، وأحيانا دور الشريك. وبين هذا ذاك تتذكر قميص عثمان النقابي وتلوّح بعصا الإضراب المهلكة كلما أرادت توظيفها من أجل صديق !.
كانت المواعيد الانتخابية مربكة دائما لقيادة الاتحاد. فالزمن لم يعد زمن مناشدات ولا تحالفات صريحة كما في العهدين السابقين. وفي هذه السنة بلغ التخبط مداه: مرة تعلن عزمها المشاركة بقوائم نقابية في الانتخابات. ومرة تَهُمُّ بإعلان تحالفات. لتكتفي في آخر المطاف بدور المراقب، وهذا أقل من كل الطموحات !.
ولكن اللافت هو خطاب الأمين العام الأخير. خطاب يذكرنا بأمرين اثنين :
- أن خطاب البيروقراطية النقابية لا ينمّ عن غطرسة فحسب بل يرفض العملية الديموقراطية التي تعطي حق الممارسة السياسية لكل “من هبّ ودبّ”. وبالطبع، سيكون من السذاجة أن نفترض أن الطبوبي يخشى على قرطاج من فلول المرشحين الفولكلوريين !. إنه ببساطة يعيد السلطة إلى المربع التاريخي الذي تحاول مغادرته اليوم: الحكم للصفوة من البلدية والسواحلية، والدواخل حرس القصور !. والغريب أن الاتحاد يقدم نفسه ضمنيا ومن خلال اصطفافه السياسي الظاهر كحارس للقصر !
- الانخراط في تحالف خفيّ مع أحد أجنحة النظام القديم. فالتلويح بكسر العظام لن يفهم منه سوى محاولة لقطع الطريق على بعض الخصوم الجديين.
•••
دخل عمير بن ضابئ على عثمان بن عفان فيمن دخل وضربه حتى كسر أضلاعه انتقاما لموت أبيه. ثم ندم على عدم قتله بعد ذلك في بيته الشهير :
هَمَمْتُ ولمْ أفْعلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي
تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَان تبْكِي حَلَائِلُهْ
لم يكن عمير ثائرا بل منتقما.
وكان هذا البيت سببا في قتله على يد الحجاج بن يوسف الثقفي.
أما الاتحاد، فقد همّ بالمنصف المرزوقي ومن بعده كثيرين وقد كسر كثيرا من الأضلاع.. وهاهو اليوم يتوعد خصومه بالمزيد !. والأنكى أنه يتحالف اليوم مع الزبيدي بشكل خفي !.
ولم يكن فعله هذا من قبيل الثورة بل الانتقام.
على البيروقراطية أن تحذر مما يخبّئ لها القدر. فكاسر الأضلاع يلتقي دوما بحاكم يشبه الثقفي !..