نصر الدين السويلمي
دكتاتور غريب الاطوار هذا الزعيم النهضاوي الذي رافق حركته منذ سبعينات القرن الماضي الى يوم الناس هذا، والذي لاحقته المنظومة البورفيبية والمنظومة النوفمبرية ومنظومة الحلف الباردوي ومنظومة بن زايد ومنظومة عسكر مصر والكثير من المنظومات الاخرى، غريب امر هذا الرجل الذي حاز على لقب الدكتاتور دون ان يعتلي كرسي الرئاسة ولا كرسي رئاسة الحكومة ولا كرسي الوزارة ولا كرسي الولاية ولا كرسي المعتمدية ولا حتى كرسي المشيخة.
دكتاتور غريب هذا الذي افتتح مسيرته تحت الدكتاتورية البورقيبة بالاعدامات وافتتح عصر الثورة بالتنازلات، استهل رحلة النضال بحكم الإعدام، واستهل رحلة الثورة والدولة بالتنازل لأمينه العام، ضل الغنوشي في الحركة وذهب الجبالي الى الدولة، ثم ظل الغنوشي ثانية في الحركة ومرة اخرى ذهب العريض الى الدولة، ثم ظل الغنوشي في الحركة وذهبت قوافل من قيادات الحركة الى لاعمار الوزارات، ثم ظل الغنوشي في الحركة وهـــا نائبه مورو يذهب للرهان على المنصب الأول في الدولة! غريب أمر هذا الدكتاتور الذي تصارعه الأنظمة الدكتاتورية كما تصارع أردوغان الرئيس ومرسي الرئيس، تصارعه بلا منصب رسمي، تلاحقه وتجند نفوذها خلفه وهو الأعزل من ألقاب الدولة.
غريب أمر هذا الرجل الذي صنع اسمه حين قاد المعارضة ضد بورقيبة وصنعه حين قادها ضد بن علي، وصنعه حين تخلى عن رئاسة الحكومة مكرر وصنعه حين تخلى عن سباق رئاسة الدولة، غريب امره حين ينحت الزعماء تاريخهم بالصدامات وينحت هو تاريخه بالتنازلات، تنازل عن حقوقه التي خولها المنصب، ثم قاد حركته للتنازل عن حقوقها التي خولها الصندوق، تنازل للسبسي حين كان ثورة مضادة في عيون جميع الثورة، حينها توزع دم الغنوشي بين لقب الدكتاتور ولقب الخائن، ثم ما لبثوا ان أطلقوا على السبسي الرحمات وتهامسوا في جنازته ان هذا العجوز خدع الثورة المضادة ولم يخدع ثورة الحرية والكرامة…رغم ذلك لا احد منهم اختلى بهذا الحامي السبعيني وهمس في أذنه، لقد كنت على صواب وكنا على خطأ.
تمكن الغنوشي من ادخال لغة سياسية جديدة الى البلاد، ينقذ الحركة والثورة والتجربة بالتنازلات والمرونة وليس بالصدامات والتصلب، معارك جديدة بأدوات مبتدعة..غريب أمر هذا الدكتاتور الذي أرسى ثقافة أتأخر لأتقدم، أنزل لأصعد.. لقد كان من الشخصيات النادرة التي أعادت تعريف مفهوم الصمود، وجنحت بدفاعات التجربة التونسية بعيدا عن نمط دفاعات 25 يناير”مصر” و11 فبراير “اليمن” و 17 فبراير “ليبيا”.. على الذاكرة أن تستحضر جيدا سنة 2013 عندما كان خصوم الربيع العربي يتباحثون في كيفية إعدام التجربة التونسية، بعد ان اختاروا طريقة إعدام التجربة المصرية واليمنية والليبية والسورية، وبعد التنازلات ومفاوضات الاستسلام مع الحزب الأول في تونس بإشراف زعيمه، قبلوا بتأخير اعدام التجربة التونسية او بتقسيط اعدامها، ثم وبعد سنتين الى ثلاث سنوات، عادت النهضة الى صدارة المشهد وتسيدت في المجلس ومنعت سقوط الحكومة بشهوة من السبسي الصغير، ثم مات الرئيس واكتشف اعراب الثورة المضادة ان تونس افلتت، وان مفاوضات الاستسلام كانت عملية تراجع تكتيكية لاعادة ترتيب الصفوف..حتى قال كبير مستشاري محمد بن زايد في تعليقه على الجنازة “يبدو ان التجربة التونسية تنجح” ولو كان المستشار في شهامة هند بنت عتبة، لقال كما قالت “هل كنا على ضلال يا أبا سفيان ؟”.
مازال خصوم النهضة، وحتى قلة من ابناء النهضة يروجون للقب الغنوشي الدكتاتور!!! دكتاتور بمواصفات خاصة جدا هذا الذي يشيّد دكتاتوريته على التنازلات لصالح رفاق دربه ثم يشيّدها مرة اخرى على التنازل لصالح وطنه، دكتاتور بمواصفات مستحدثة مبتدعة مبتكرة، هذا الذي حافظ على قيادة حركته للتجربة حين نُحرت بقية الحركات المشابهة وحرقت تحريقا، دكتاتور من خارج رحم الدكتاتورية هذا الذي رسّم حركته في صدارة المشهد بالحوار والتوافق وبلا قطرة دم ولا سجون ولا صدامات، فقط بالحوار وطول النفس والرهان على شعب ذكي وقواعد تغضب وترفض وتُعرض.. لكنها تُحسن تعرف قيمة الرجال.