Site icon تدوينات

كلمة الْيَوْم : عُرْسٌ

بشير العبيدي

بشير العبيدي

بشير العبيدي

#معجملسانالعجب 
#معجملسانالعجب : مقالات اجتماعية ثقافية هزلية وساخرة ومتهكمة، تكشف طبيعة المخزون الثقافي وبعض المظاهر من الخلل في المجتمعات العربية، وتهدف إلى نقد تلك الظواهر بأسلوب أدبي يجمع بين السخرية والإمتاع. تقرأ بروح الهزل. 
مفردةُ “عُرْسٌ” في معجم لسان العجب، عجبٌ على العجب. كسروا عينها، فلا يكاد يسمعها السامع إلا “عِرْسٌ”، والعِرس هو الزوج. ومعنى “عُرْسٌ” هو “النزول ليلاً”. يقال : سافر فلانٌ إلى قسنطينة، وعرّس في القيروان، أي نزل ليلاً، فلا تتهموه بتهمة، لعلّه نزل للصلاة في جامع عقبة بن نافع!
ولما كانت أهوال الأعراس تتمّ ليلاً ألبتّة، فقد أبقوا على الكلمة بعد أن فقأوا عينها! ولأجل ذلك مواويل الأعراس عند العرب تكون “يا ليلي ! يا ليلي يا ليلي، وتسمع الموّال نفسه من العراق حتى موريتانيا ومن أحراش الأندلس حتى أدغال السودان ! يا ليلي يا ليلي ! اسمعوها بصوت صباح فخري !
ويوجد حيوان من فصيلة العِرسيات يفعل الأفاعيل في الليل بالدجاج خاصّة، حتى استأهل لقب ابن عِرس عن استحقاق وجدارة.
ويجمع العُرس على “أعراس”، وبعض اللهجات أنّثته على “عروسات” ! ويسمّى “العُرْسُ” أيضا : (فرحاً)، على عادة العرب في تسمية الحوادث والكوارث بأسماء عكسية للتطيّر، كما سمّوا الصحراء (مفازة)، والفحم (بياضا)، والملح (ربحاً).
وفي ما مضى من خوالي القرون، كان الرّجل يعرّس على أهله، فإن أعجبته استبقاها، وقال فيها مديحا تطير به الركبان مشرقا ومغربا. وإن كرهها سرّحها في الصّباح إلى أهلها، وكان – اللعين – ربّما هجاها بعد طلاقها، كقول القائل :
ولا تستطيع الكحل من ضيق عينيها
فإن عالجته صار فوق المحاجر!
وثديان، أمّا واحد: فهو مزودٌ!
وآخر فيه قِربةٌ للمسافر!
وكانت الطليقة العربية ربما هجت مطلّقها أيضا، كقول القائلة:
كأنَّ الدار يوم تكون فيها
علينا حفرة مُلئت دخانا!
فليتك في سفين بني عباد
طريداً لا نراك ولا ترانا!
وليتك غائب بالهند عنا
وليت لنا صديقاً فاقتنانا
ولو أنّ النذور تكفّ منه
لقد أهديتها مئة هجانا!
هذه لمحة عن الأعراس، و”العروسات” فيما اندرس من الزّمان.
أما في زماننا الْيَوْم، فالعُرس عُرْسٌ ! فهو أعظم تمثيلية هزلية ينجزها المعرّسون، وهم على صنفين عظيمين :
الأول : صنف من الأعراس يكون عند “بني تِرّ”، وهم قوم مقطوعون عن المال، من أترّ أي قطع، و أموالهم في القلة كعقولهم، فإذا زادت أموالهم نقصت عقولهم وزاد هبلهم درجات.
والثاني : صنف من الأعراس يكون عند “بني خُرّ”، و(بنو خُرّ) هم من فئة رجال “العمايل” الذين أوردتُ خبرهم في باب مفردة “عُملة”، وجاء في تعريفهم : (فئة من أطهر ما خلق الله ممن دبّ على رجلين وعلى أربع! إذا تسلّط عليك أحدهم، فاعلم – يرحمك الله – أن رَبّك أراد تطهيرك من ذنوبك كلّها في الدنيا كي تدخل إلى الجنّة من دون حساب)! والخُرُّ كناية أخذتها من الرحى: وهي اللَهوة، وهو الموضع الذي تُلقى فيه الحبّ بيدك لكي يرحى.
وسواءٌ كان المعرّسون في زماننا من “بني تِرّ” أم من “بني خُرّ”، فهما يشتركان في الأدوار والممثلين وفِي صفاتهم في تمثيليّة النّطع وإثارة النّقع و إعمال اللّذع ودقّ اللّطع. وهذه قائمة بأهم الأحداث التي تحصل في الأعراس، ونترك التفاصيل مخافة الملل من التطويل، وعلى الله التوكّل والتعويل :

نظـــرةٌ، فابتســـامةٌ، فســـلامٌ
فكــــلامٌ، فموعـــدٌ، فلقـــاءُ
ففـــراقٌ يكـــون فيـــه دواءٌ
أَو فــراقٌ يكــون منــه الــدَّاءُ
“الشخناق” والشخناقة” و”الحنش” و”الأفعى أمّ السبعة رؤوس” : وهذا في أعراس بني تِرّ كما في أعراس بني خُرّ، لا يمكن منع وجود هذين الصنفين، ودورهما هو التشكي من التأخير الكبير في تقديم العشاء، وتسميع الناس أن “مصاريني تقطّعت من الجوع”، وأنه “أقسم بالله أرجع لداري أتعشى ولن أحضر عرسكم ثانية”… و”الشخناق” والشخناقة” بهما رأي في كلّ شيء، من فستان العروسة الذي يطابق مواصفات الجمال عندهما، إلى لباس أم العروسة، إلى ترتيب قاعة الحفل، إلخ. فلا يكاد يفلت منهما شيء. ستتعرف عليهما بسهولة تامة: انظر هؤلاء الذين يجلسون وهم يحاكون جلسات المدعوين في الأفلام الشهيرة، من طريقة مسك حقيبة اليد، إلى طريق تسوية الشعر، إلى طريقة النظر إلى الساعة، إلى كيفية الالتفاتة والنظر شزرا، إلى كيفية النظر مع تطريم الشفتين للسخرية … وهكذا. أما الحنش والأفعى، فهما اللذان يفسدان العرس باختلاق أي سبب للخصومة، ويحرصان على رفع الصوت وإشعار بقية الحضور بأن العرس فسد، وهما اللذان يسببان بكاء العريس والعروسة حزنا على هذه المستويات… وحين حصول هذا المكروه تعرف أمارته بارتفاع أصوات النساء بالزغاريد، فكلما زادت الزغاريد فاعلم أن شيئا ما قد حصل، ولا مجال لمنع هؤلاء الرهط من حضور العرس، فإن لهم من الأرواح سبعة، ولا بد من شخناق، وشخناقة، وحنش وأفعى أم سبعة رؤوس، وكما تقول أمي: “لا تأتي تاقزة (قراءة الطالع) بلا فحمة، ولا عرس بلا نكد”.
العريس والعروس: وننهي الشرح بذكر أهم ركنين في العرس، وهما نجما الموكب ورحى الموقف، أما العريس فهو الذي يلبس لباسه في الدقائق الأخيرة، ويأتي يحلق لحيته أو يحفّها فيجرح نفسه، ويلطّخ قميصه، ثم يعالج الأمر بما اتفق، وقد يضطر لتغيير القميص في آخر لحظة. وعادة ما يكون مبتسما، لكنه غالبا ما يكون في حالة ثانية بين النشوة والقلق. يبوسه أهل الحيّ كلّهم، وربما الأحياء القريبة، حتى يبيدوا جلدة وجهه. أما العروس، فتقضي يومها بين فستان وفستان وصورة وأفلام، تلتقطها جميع الأجهزة المصورة، وتدور صورها حول العالم كما يدور مكوك الفضاء قبل نزوله إلى منصّته، وتصبح ابتساماتها في آخر النهار بلاستيكية صرفة، ونظراتها تائهة، ومشاعرها في مهبّ الرّيح… وبمجرد انتهاء الحفل، تدخل بيتها المعدّ لها ولزوجها، فيلقيان بلباس التمثيلية على أقرب شيء في متناول اليد، ثم يرتميان على الفراش خائريْ القوى، بعد أن يكتشفا بعضهما … من دون زينة ومكياج… وهذا معنى قولهم : العريس يعرّس … والمشؤوم يتهرّس…
زغردوا على العريس والعروس…
✍🏽 #بشير_العبيدي | ذو الحجة 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا|

Exit mobile version