مهدي جمعة: “كفاءة” الترويكا يستثمر الذاكرة القصيرة

لطفي الحيدوري

عندما صرح الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي أنه بعد أن كان يعتقد أن اختيار مهدي جمعة لرئاسة الحكومة سنة 2014 كان اختيارا صائبا، ندم على ذلك. كان يتحدث عن رجل دولة تنكّر لعهوده.
وأشار العباسي إلى أن مهدي جمعة “أغراه الكرسي” وفكر في الترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2014 والحال أن خارطة الطريق المتفق عليها في الحوار الوطني، تمنع ذلك .وذكر العباسي أنّه كان في مهمة نقابية خارج تونس عندما أبلغ مهدي جمعة أحد أطراف الحوار الوطني بنيّته، فعاد على عجل ليثنيه عنه ذلك، فقد كاد ينسف الحوار الوطني لأنّ ذلك كان يقتضي استقالته وبالتالي حكومة جديدة وتأجيل الانتخابات.
كان طموح جمعة تنكّرا لميثاق الحوار الوطني الذي جاء به رئيسا للحكومة، وأنقذته تدخلات الشخصيات الوطنية من تسجيل فضيحة أخلاقية سياسية في رصيده الضئيل ثم بدرجة أولى في رصيد تونس التي كانت ترسم وقتها نموذج التعايش والحوار والانتقال السلمي للسلطة تحت أنظار العالم. وكان الرجل ينسف ذلك، دون أن يحقق شيئا لنفسه، فموازين القوى في تلك الانتخابات كانت واضحة، لا موقع له بينها.
يعود اليوم مهدي جمعة بحلمه السابق منتقدا الجميع رافعا لواء الأخلاق السياسية، بخطاب استعلائي يحتكر صفة الكفاءة وينزعها عن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، عدى عن حكومته، وهو يحاول أن لا يذكر للتونسيين أنّه كان وزيرا في حكومة علي لعريض. وقد يكون الهدف من ذلك أن يرسّخ مسلّمة عدم وجود كفاءات في حكومتي الترويكا، والحكومات التي جاءت بعد 2014، اللهم إلاّ إذا نزعنا عنه صفة الكفاءة. وقد كانت حكومة “الكفاءات”، التي تحزّبت بعد ذلك بقيادته، أضعف أداء من الحكومتين السياسيتين اللتين سبقتاه، رغم الأوضاع الأمنية الصعبة وآلاف الإضرابات والضربات الإرهابية الموجعة والاغتيالين السياسيين، فقد حققت حكومة حمادي الجبالي نسبة نموّ وصلت 3,8 بالمائة، ثم حكومة لعريض 2,4 بالمائة والتي وصلت خلال التسعة الأشهر الأولى من سنة 2013 نسبة تقدر بـ 2،8 بالمائة، لتنزل إلى 2,3 بالمائة في عهد جمعة رغم الهدنة الاجتماعية المعلنة.
يقول جمعة في حوار صحفي، مؤخرا، إنّ البلاد كانت “واقفة” سنة 2013 عندما جاء للحكم. فهل أقعدها هو؟
فشلت الكفاءات في ما بلغه السياسيون، وأكّدت النتائج أنّ البلاد في المرحلة الحالية تحتاج قيادات سياسية وزعامات حزبية ذات رصيد قويّ وقادرة على اتخاذ القرارات، لا إلى وزراء إداريين يحتكرون الكفاءة التي تتوفر في مئات الإطارات بالدولة التونسية ويعملون بمختلف أجهزتها ومواقعها، فقط هم يحتاجون إلى أصحاب القرار الشجاع الحريصين على تطبيقه.
لم ينجح مهدي جمعة في تحقيق نسبة النمو التي يرجى منها دفع التشغيل ومعالجة أزمة البطالة واستحثاث نسق الاستثمار الخاص وجذب الاستثمارات الخارجية. ولم يكن أداؤه كافيا لمعالجة الأزمة المالية العمومية والمديونية الخانقة، بل كان يخرج على التونسيين الناطق الرسمي للحكومة نضال الورفلي، ليخيفهم من أنّ الدولة قد تعجز عن سداد الأجور.
وإذا كان مهدي جمعة يفتخر اليوم بنجاح حكومته في المسألة الأمنية، فهو في الحقيقة يباهي بالأمن الذي كان تحت إشراف وزير داخلية الترويكا، والإطارات الأمنية التي استمرت في مواقعها، بل إنّ من ناشطي حزبه اليوم إطار أمني كان محسوبا على حركة النهضة وشنت بعض وسائل الإعلام والنقابيين الأمنيين حملات ضده تحت ذلك العنوان.. وهو في ذلك وفي غيره من المسائل، يبدو أنّه يعوّل على قصر ذاكرة بعض التونسيين الذين يسهل توجيه آرائهم.
ويمعن الرجل، وهو يسوّق لنفسه باستعمال صفة “رئيس الحكومة الأسبق” في لعب دور الضحية، رافضا لإثارة ملفاته الشخصية والعائلية، شأنه شأن أي شخصية عامّة، وهو يدّعي وجود حملة تدار لإقصائه، في الوقت الذي لم يسلم جميع السياسيين من سهام النقد، دون حدود.
أمّا إغراقه في الشعبوية فقد جاء مثيرا للسخرية، عندما تحدث لموقع إلكتروني عن جزار في حي التضامن، روى له أنّ لم يبع كيلوغراما واحدا من اللحم منذ 3 أيام، وامرأة عادت من سوق أريانة بقطعة خيار لم تستطع اقتناء غيرها.
لقد أعطى مهدي جمعة نموذجا، متكررا في تونس، لحديثي العهد بالسياسة المستعجلين لقطف ثمارها بسهولة، لكن مآلهم كان الفشل.
يحاول جمعة أن يستثمر تجربة 2014 مثلما استثمرها الباجي قائد السبسي قبله سنة 2011 والذي عاد بعد أشهر من مغادرة الحكومة بحزب سياسي تصدّر المشهد في أول استحقاق انتخابي، فأسس “نادي التكنوقراط الحكومي”، وهو جمعية تونس البدائل قبل تحويلها إلى حزب سياسي، في مثل آخر سلبيّ عن العمل الجمعياتي. وهو بذلك لا يأتي بجديد، بل ينسج على منوال غيره من “الفاشلين”، كما يصفهم هو، عندما كان الشعار سنة 2011 عودة الاستقرار وإنجاح الانتخابات، دون طموح شخصي، وبشيطنة الآخر، كما فعلوا من قبله، مستخدما عبارات نابية مثل “نحاربوا الوسخ متاعكم بنظافتنا”.

لا يختلف جمعة عن غيره، فصورته في إحدى الاجتماعات، يجلس على يساره خميس قسيلة، عضو حزبه السائح حزبيا بلا حدود، وعلى يمينه رئيس مكتبه السياسي، ممول حزب النداء سابقا فوزي اللومي، في استنساخ للمشهد الرديء.
يستطيع المهدي جمعة التنقل اليوم في البلاد، دون أن يتلقاه الناس بسهام النقد، ما دام لا يتحمل مسؤولية الحكم اليوم، ونسي التونسيون حصاده السابق.

Exit mobile version