باكيتة الزعيم

ليلى حاج عمر

في ذكرى ميلاده
أمام ضريحه الشتاء الماضي تذكّرت حكاية رواها لي والدي رحمه الله كيف أنّ بورقيبة كان يتجوّل يوما على أحد الشواطئ فوجد حواجز تشير إلى أنّه شاطئ خاصّ. فما كان منه إلّا أن نادى “صاحب الشاطئ” ورفع باكيتته وضربه بها وأمره بأن يزيل الحواجز فالشاطئ للشعب. كلّ الشعب. كانت الباكيتة تعلن سلطة الرئيس الفردية التي لا تردّ وهيبة الدولة التي مدارها الفرد. ومنذ ذلك الزمن صارت الباكيتة العصا السحرية التي تغيّر العالم إذ يروي أهل المنستير أنّ المدينة كانت صغيرة الحجم كرمّانة وأنّ الرمّانة مسّتها عصا الزعيم فانفلقت وتفرّقت حبّاتها وانتقّل السّكّان من أحيائهم القديمة التي كانت تضمّ جميع الخدمات التّقليديّة إلى أحياء سكنيّة جديدة بعد أن أقيمت فيها مباني عصريّة ومصالح عصرية وشوارع حديثة. و”كان كلّ ذلك يحدث باطّراد إثر إشارات من عصا الرّئيس السّابق الشّهيرة “الباكيتة” التي كلّما أشار بها إلى حيّ عتيق أدرك الجميع أنّه آيل إلى سقوط لا محالة” (هذه الجملة نقلتها حرفيا عن أحد الأدباء من أهل المنستير). هكذا كانت الباكيتة السّحريّة تختزل سياسات الدولة ومخطّطاتها وبرامجها وتخضعها جميعا لإرادة الزعيم الذي يوظّف سلطته الروحيّة المستمدّة من سماء الميتافيزيقا وسحر الأسطورة ومن فكرة الإنسان الأرقى في آن واحد وفي خليط عجيب لبناء مدينة ومجتمع صار عنوانا لهذا الخليط العجيب.
مزيج العلمانية والخرافة نتبيّنه في ما يرويه هذا الأديب الدستوري عن احتفاظ ذاكرة أهل المنستير بخرافة عن الرئيس الحبيب بورقيبة راجت فترة حكمه تقول بأنّ الانتهاء من بناء مقام الزعيم مؤذن بنهايته، لذلك ما فتئ المهندسون، وفقا لأوامر الرئيس، يتفنّنون ويحدثون كلّ مرّة تغييرات جديدة على المبنى كلّما أوشك على الاكتمال، فيزيدون في تزويق القبّة والمنارتين ويمعنون في التبليط بالرّخام، تمطيط يراد به عدم التوقف عن البناء. وكان أن صدقت الخرافة إذ تزامن الانتهاء ( وأظنّه إنهاء بأمر ) من البناء مع نهاية حكم الرئيس سنة 1987. هكذا يصدق المنجمون كما كتب أحدهم، حتى ولو كان صدقهم سببه الانقلاب النوفمبري.
الباكيتة التي رافقت صور بورقيبة في منفاه المريح في جزيرة جالطة حين كان يجالس الصخور البحريّة ببدلته البيضاء ناصعة البياض الغريبة في بياضها والأنيقة الغريبة في أناقتها كأنّما جلبت من دور الموضة الباريسية ترسم المستقبل الواعد لرئيس بكاريزما واضحة وبملامح تشبه ملامح زعماء القرن العشرين بدءا من كمال أتاتورك وصولا إلى الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو. زعماء أرادوا صناعة أمّة من “غبار” شعوبهم وتلبّسوا أرواح “الآلهة” واعتقدوا أنّهم قادرون على الخلق بفرض الانتظام على الفوضى وبتقويم الإنسان فردا أو جماعة عشيرة أو قبيلة بإرادة القوّة الفرديّة.
كان الشعور بالعظمة سمة جيل كامل من الزعماء الذين عاشوا على وهم صنع شعوبهم وفق ما يرغبون، وعلى وهم أن تصنع منهم شعوبهم أصناما أبديّة كما يحلمون.
لقد مكث بورقيبة قائما على عصاه حتى أكلتها أرضة الفساد والجهويات العميقة والتكالب على الحكم وعقلية الغنيمة فتداعى. تداعت سلطة الباكيتة للضعف وتسرّب الفساد في مفاصل دولة لا تحكمها المؤسّسات الديمقراطية وترسّخت الجهويّات وهيمنة الحزب الواحد واحتكار الامتيازات لصالح أبناء الحزب الواحد وحدث الانقلاب بعد ذلك واستشرى الفساد مع هيمنة عائلات بعينها على الاقتصاد. إلّا أنّ المخيال التونسي ظلّ وسط كل هذا محكوما برمزيّة الباكيتة وبرز الحنين إلى الباكيتة فوق الرؤوس إبّان الفوضى بعد الثورة وتمّ تضخيم هذا الحنين قصدا وصار الزعيم رأس المال الرمزي الذي توظّفه الأحزاب في تنافسها على السلطة ورأينا من السياسيين من يتمسّح على أعتاب الضريح في مشهد سريالي لا ينسى.
مازالت الناس تهفو الى الباكيتة فوق الرؤوس. مازال زمن حتّى ندرك أنّ الشعوب الحرة لا تحكم بالقوة. حتّى تنتهي الوثنية الجديدة. ولكنّنا نستطيع أن نقول أنّ الوفاة الأخيرة لآخر الحكّام الدساترة على تشبّهه ببورقيبة مثّل رجّة في الوعي الجماعي قد تحوّل “الباكيتة السياسية الفرديّة” إلى مجرّد إرث قديم لأب من آباء الوطن المؤسّسين. لقد كان تكريم الرئيس الأخير في جنازته ديمقراطيا إنهاء لزمن لاديمقراطي هو احد ابنائه وممثليه. انتهى عهد الزعماء الأفراد اللاديمقراطيين. انتهى زمن السحر والعصا التي تشير بكن فيكون. وها نحن نخرج من زمن السّحري على ادّعائه الحداثة إلى الزمن الحديث على تلبّسه بالسّحريّ. ها هي الثورة تحرّرنا من الصنميّة وقداسة الأشخاص، من السحر والسحرة، من الأسطورة الواهمة بالمعجزة الفرديّة التي تغنّاها غيلان المسعدي ليؤسّس لديكتاتورية الفرد العظيم في تحدّيه للآلهة.
وها نحن أمام مصيرنا. نسير على أرصفة التاريخ دون عصا نتّكئ عليها غير المؤسّسات الدستورية. مؤسسات لا نريد لأرضة الفساد ان تأكلها ايضا. إذ عليها تقف الدولة. دولة تغوّلت فيها الفردانية والليبيراليه المتوحشة مع همجيّة محليّة ولوبيات عائليّة مازالت تدفع بالأفراد إلى الحكم وتثير فيهم جنون العظمة كي تتستّر وراءهم لترتكب جرائمها في حقّ الشّعب وثرواته.
كان بورقيبة يقول: تونس متاعي أنا كيفاش نسرقها؟
آن الأوان أن يصبح السؤال: تونس متاعنا الكل.. كيف نسرقها؟
ليلى الحاج عمر
الزهراء 3 أوت 2019
 

Exit mobile version