رائحة غسيل
ديما مصطفى سكران
“لكن أليست رائحة مسحوق الغسيل على قميص شاب أعزب أجمل من كل عطور الدنيا؟”، قالت ابتسام في سرها وهي تسحب نفسا عميقا، بينما أصابع فراس بالقرب منها تنقر بخفة على أزرار الآلة الطابعة…
– أخبار حزينة اليوم أيضا؟
– نعم للأسف…
أجابت باقتضاب، أخبار حزينة اليوم كما في كل يوم، وبين أخبار القتلى والجرحى التي تجمعها ابتسام من المواقع لتصوغ نشرات الأخبار، ثمة هذه الدقائق القليلة التي تمضيها أمام الطابعة مع فراس قبل كل نشرة جديدة، ثمة هذه الرائحة الساحرة التي كانت تظنها عطرا نادرا لم تشتم مثله في حياتها، حتى انتبهت إلى أنها رائحة المسحوق الأبيض ذي الحبيبات الزرقاء، والذي لا بد أن فراس يضيفه إلى القسم المتوسط من درج الغسالة قبل تشغيلها!
يا للشاب الأعزب الذي يعيش وحيدا… فكرت في سرها، ثم تخيلته وهو يصنف غسيله بنفسه إلى أبيض وملون وغامق، وهو يخرجه من الغسالة إلى سلة بلاستيكية، وهو يثبته على حبال الشرفة بملاقط خشبية، بينما يعض بنواجذه على واحدة في فمه، تخيلته وهو يكوي قميصه بنفسه بعناية فائقة، تجعل آثار الملاقط على الأكتاف تختفي تماما… انتبهت لنفسها وهي تبحث عن آثار الملاقط على كتفيه، فأشاحت عنه بسرعة، وعادت لتفكر… ولكن ألا تكون رائحة مسحوق الغسيل التي تفوح من الثياب النظيفة لرجل أكثر جاذبية بألف مرة من أغلى العطور التي يظهر في إعلاناتها ممثلون أجانب بقمصان مفتوحة الأزرار ولحى شقراء؟؟…
كانت رائحة الغسيل زكية للغاية، وكانت ابتسام تعب منها على مهل وبلا شعور، فتصبح أنفاسها عميقة جدا وبطيئة، بينما الآلة الطابعة تصدر ضجيجا متتابعا يذكر بليالي الحب، أو يوحي بمجزرة تحصل للأوراق في الداخل… مجازر في الداخل، مجازر في الخارج، مجازر خلف الحدود… تنهدت… وبين التنهيدة المكتومة والتنهيدة انقباضات في الصدر…
عينٌ على فراس، وعينٌ على الأوراق التي بدأت بالتكدس، ولدى ابتسام أمنية صغيرة لا تعلن عن نفسها، أن تطول هذه الهنيهة قليلا، وهما يتبادلان المجاملات والأسئلة العادية… وهما صامتان تماما، ألا تتوقف هذه الآلة عن العمل، أن تظل تطبع وتطبع حتى تُغرق المبنى بنشرات الأخبار، فتخرج الأوراق ذوات الأخبار الحزينة من نوافذ القناة إلى شوارع اسطنبول، لتسبح السيارات في سيولها…
انتهت المجزرة وتوقف ضجيج الآلة، فأخرج فراس الأوراق، مرتبة فوق بعضها البعض، ساخنة، يتصاعد منها بخار شفيف، وتفوح منها رائحة الحبر الطازج، مختلطةً برائحة الغسيل الفواحة، تناولت ابتسام الأوراق الحارة من يديه، وهي تأخذ شهيقا عميقا بطيئا، جعل حبيبات مسحوق الغسيل الزرقاء وقطيرات الحبر الساخن تذوب في دمها…
تحية رسمية خافتة أخرى دون أن تنظر في وجهه، ثم مضت إلى مكتبها في زاوية الغرفة، الأوراق نائمة على ساعدها، متهدلة ومسترخية وبائسة كعاشقة متروكة للتو…
هل تبدو كأوراقها تلك، بائسة ومتهدلة الأكتاف، كعاشقة متروكة أيضا؟ لا لا.. غير معقول، لا أحد يتصور أن مدام ابتسام يمكن أن تكون معجبة برائحة مسحوق الغسيل على قميص ناصع البياض لشاب أعزب يصغرها بسبع سنوات…
قد يكون عريسا ملائما لعنقاء ابنة خالتها في حماة، لو كانت هنا فقط لاقترحتها عليه، لدبرت الأمر بينهما، كم هو جميل أن تتزوج المرأة برجل تفوح منه رائحة جميلة إلى هذا الحد… إنها الرائحة فقط، ولكنها لا تجده وسيما حتى، إنه قصير بعض الشيء، وكثيف الشعر في صدره، وهي لا تحب شعر الصدر الكثيف، ولكن ألا يبدو بشعر رأسه الرمادي رغم صغر سنه جميلا للغاية، وحتى لحيته النابزة دوما، كأنها لا تنمو ولا تُحلق أبدا، تعطيه مظهرا رجوليا، بينما تغدو عيناه العسليتان التائهتان في شاشة الحاسوب كعيني طفل محتار، حتى إذا ما عبس في وجه صفحة إخبارية ما، عاد ليبدو مكتمل الرجولة بشكل باذخ…
“ما الأمر؟!! بم تفكرين يا ابتسام؟؟!!!”
هزت ابتسام رأسها لتنفض عن ذهنها هذه الأفكار، فجاءها صوت محرر الأخبار الآخر من الطاولة المجاورة: “عاجل مدام ابتسام، موقع سمارت، انفجار في حي باب النيرب… قتلى وجرحى…!”
“حسبنا الله ونعم الوكيل…” تمتمت، مر في خاطرها ولداها الصغيران، فانقبض قلبها، وذهب عنها شرودها، عادت للعمل مجددا، فالنشرة القادمة بعد دقائق، ويجب أن تعدل صيغة الخبر الأول…
يعتمدون عليها دوما في المواقف العاجلة، فالكل يشهد لها بسرعة الإنجاز مع حسن الصياغة، إن أخبارها حتى لا تحتاج المرور على المدقق اللغوي، لقد اعتادت على ثناءاتهم المتكررة، لكن تلك الكلمة البسيطة، التي أعادها فراس على مسامعها ثلاث مرات: “رائع رائع رائع”، جعلتها تشعر بسعادة فوارة في صدرها لم تشعر بها من قبل…
لم يكن خبرا حزينا أبدا، بل كان خبرا طريفا عن مهرجان الطماطم في إسبانيا، قامت بصياغته على نحو جميل، فوقعت عينا فراس عليه قبل أن تنتهي عملية الطباعة، وراح يقلب أوراقها بين يديه، وعيونه على سطورها، مستغرقا بابتسامة…
سرت في جسدها رعشة، كما لو أنه كان يقلب جسدها بين يديه لا أوراقها، وكأنه يمرر أصابعه على ظهرها وعضديها، لا على كلماتها، وكأنه يبتسم للخال الذي يعلو كتفها الأيمن، أو لندبة الحرق العتيقة في ساعدها، لا للطماطم التي أغرقت شوارع بيونول…
هتف لها بحبور مطلقا ضحكة: “رائع مدام ابتسام، رائع رائع رائع”…
ابتسمت له بارتباك، شكرته بصوت خفيض، ووجدت نفسها تتنفس بتسارع متصاعد جعل رائحة الغسيل تدخل أعماقا جديدة في صدرها لم تدخلها من قبل أبدا، فانقبض قلبها، تناولت الأوراق باستعجال، سلمتها للمذيع، ثم انصرفت من العمل قبل الموعد بثلث ساعة…
وهي تحث السير إلى موقف الحافلة فكرت… سيكون عريسا ملائما لربا ابنة أم سامح، ستدله عليها لو سألها عن عروس، ربا هنا على الأقل، أما عنقاء فإن أمها تريد تزويجها في حماة…
في الطريق إلى الفاتح في اسطنبول حيث تقطن، أسلمت رأسها لزجاج المتروبوس، بينما تعاقبت على رأسها المشاهد والأفكار، أصابعه وهي تعبر على الكلمات، الأوراق الساخنة المسترخية بين يديه، “رائع رائع رائع” بصوته الرجولي الجميل، ثم رائحة الغسيل… رائحة الغسيل الزكية القوية التي لا تزال تملأ صدرها، وتسبح في دمها مثل قوراب شراعية في صيف جميل…. شعرت بانقباض مجددا، فأخرجت سبحتها الالكترونية وبدأت تسبح…. يجب عليها دفع أجرة البيت عن ثلاثة شهور تأخير، وفي البيت أيضا ينتظرها طفلان صغيران ونصرت، نصرت العاطل عن العمل منذ أكثر من سنة، النزق، المتطلب، عكر المزاج، وفي آخر الليل، بعد أن ينام الصغار وتنهي تنظيف المنزل، وتمدد جسدها المنهك على الكنبة لترتاح، تعرف أن نصرت سيطلبها للفراش، وستجاريه تجنبا لأن يملأ صراخه البناء في منتصف الليل، ويزعج جيرانهم المتأففين، عشر دقائق ستكون أثقل عليها من كل عناء هذا النهار الطويل، ولكنها ستتحمل العشر دقائق هذه، وستتحمل فيهن رائحة جسده الحامضة، وستتحمل منظر أسنانه الصفراء، وستتحمل شعره الأشعث وذقنه المهملة… ستتحمل.. لأنه نصرت.. أبو الأولاد….
كان الطريق طويلا، والحافلة تهتز بانتظام ولا تغير تسارعها، وكانت ابتسام تفكر في كل شيء دفعة واحدة وبدون تركيز، بينما رأسها يزداد ثقلا على الزجاج، أفلتت السبحة من يدها فجأة، تدحرجت على دَرَج الحافلة، واستقرت عند قدمي امرأة عجوز على كرسي متحرك، تمتمت السيدة بالتركية، بينما كانت ابتسام قد سقطت في إغفاءة على زجاج الحافلة…
قُبلة، قُبلتان، ثلاث قُبل… رائحة الغسيل العذبة تملأ صدرها، تجري في دمها… أصابعها تقبض على القميص ناصع البياض بشدة، حيث ليس ثمة آثار لملاقط الغسيل على الأكتاف، ومن القبة المفتوحة يبدو شعر الصدر الكثيف، جميلا للغاية ورجوليا… أصابعها تدخل غابة الشعر الرمادي أيضا، رائحة شامبو زكية هي الأخرى تفوح بقوة، ممتزجة مع رائحة الغسيل… ثمة صوت طابعة تعمل بلا توقف، وثمة رائحة حبر أسود ساخن وطازج… الشفاه أيضا طازجة… والقبل حارة…
توقفت الحافلة بشكل مفاجئ، ارتمى جسد ابتسام للأمام بعنف… ووقعت عيناها المذعورتان أول ما وقعتا في عيني السيدة التركية العجوز… آثار القبل لا تزال على شفتيها… مسحت وجهها بيدها بذعر، انقبض قلبها، ودهمها الصداع… كانت غفوة عشر دقائق فقط… ليس أكثر من عشر دقائق… ركضت لتتمكن من النزول من الحافلة قبل أن يُغلق السائق الباب الخلفي… القُبل.. ورائحة الغسيل، والعناق الحار… والسبحة!! أين السبحة؟؟… كان السائق يرقبها في مرآته، هل كان يتمتم بالتركية هو الآخر؟ .. لم تدر ما كان عليها أن تفعل… تلفتت حولها عدة مرات، وعلى وجهها ارتباك مثير للشفقة… مدت العجوز يدها لها بالسبحة…
- تشكرلَر…
همست، قبضت براحتها على سبحتها، ثم نزلت من الحافلة راكضة… ومذعورة… ومضطربة الفؤاد… بينما رائحة الغسيل الزكية لا تزال تسكن هنا… في صدرها…