في يوم الصداقة العالمي: الصداقة والسياسة
ليلى حاج عمر
راسلتني ذلك اليوم بعد افتراق بسبب خلاف سياسي إثر مناسبة أليمة مررت بها منذ سنتين وكتبت لي:
لقد تجرعت من ذلك الكأس منذ أكثر من 20 سنة وما زال الجرح مفتوحا لا يندمل أبدا، يا ليلى… حزينة لحزنك، يا صديقتي… صبرا جميلا…
لقد فرقتنا المذاهب السياسية القذرة جميعها ولكنك تظلين ذلك الملاك الذي لا يمكن أن ينطفئ في قلبي… عرفت الخبر صدفة ولم أشا أن يمر هكذا دون أن أقول لك: الطيبون يرحلون باكرا… وهم قد يرحلون عن عالمنا جسديا ولكنهم يظلون موشومين فينا ما حيينا.
ربي يرحمو وينعمو عزيزتي
بكيت ذلك اليوم لرسالتها. وسعدت لأنّ حزنا مشتركا أعاد لي صديقة فرّقت بيني وبينها السياسة، وإن لم أشأ إرسال دعوة جديدة لها حتّى لا تفسد السياسة ثانية حبل الودّ بيننا. بقيت رسالتها ضوءا أراها من خلاله وأكتفي بذلك. ومنذ ذلك اليوم صرت أكتب بمرح لمن يرسل إليّ دعوة صداقة ممّن أحبّ وأعرف في الواقع: شكرا على الدّعوة. إن كنت لم أرسل إليك أنا من قبل فلأني أكتب أحيانا في السياسة وأقول آرائي بحريّة. ولا أريد أن أزعج أصدقائي أو أصدمهم ببعض المواقف الصريحة. وأودّ المحافظة على صلتنا الطيبة في الواقع. ولكني أعلمك أنّي أضع أيضا بعض الشعر والأغاني الجميلة وأكتب بعض النصوص الخفيفة المرحة فلا تقلق 😄
ولكنّ البعض يقلق. فليس سهلا أن تقول بحريّة ما تفكّر فيه. الفكرة حين تكون حرّة تكون مزعجة دائما. وربّما نحتاج زمنا قبل أن نعتاد المختلف دون أن يتحوّل ذلك إلى مصدر للضغينة والكراهية. ودون أن تتحوّل الساحة أحيانا إلى حلبة يصرع فيها الجميع الجميع عبر ذلك الزرّ السحري الذي لم يعرف مارك أنّ التونسيين سيكونون أكثر الشعوب استعمالا له فترة انتقالهم الديمقراطي وخلال الانتخابات خاصّة وفي جدالات أخرى كجدالات الكرة أو الدين أو عراء ممثّل!
أصعب الصداقات صداقات السياسيين، فهي متقلّبة محكومة بالمنفعة والمرحلة. بعض الأصدقاء من السياسيين قد يقطعون الصلة بك متى ذكرت غيرهم أو غير من يتزعّم حزبهم رغم أنّك قد تكون كتبت عن الشخص دفاعا عن فكرة أو قيمة أو مبدأ. ولم يكن الشخص سوى مثال. مجرّد ذكر اسمه قد يعني أنّك صرت ضدّا. في خندق الأعداء. ومن ليس معنا فهو ضدّنا. هكذا يخسرون كلّ يوم بضيق الأفق الكثير.
صداقات الأدباء لا تختلف كثيرا. وحرب المواقع فيها أشدّ أحيانا. والمجاملات فيها خانقة. جاملني أجاملك. لا تجاملني أعاقبك. الأدهى أن يتجنّبك مادمت تكتب في السياسة وتعبّر عن مواقفك بحريّة. فبعض “الأدباء والشّعراء” لا تجد لهم مواقف ولايزالون في قبضة الخوف يبحثون عن مربّع صغير هادئ يتمّ فيه الاعتراف بهم ويلتزمون مقابل ذلك بكلّ شروط الاعتراف. وأهمّها عدم التصادم مع الشبكة القديمة المتجدّدة الموزّعة لصكوك الاعتراف الثقافي والصّانعة لمثقّفين لايت.
هؤلاء صداقتهم عسيرة. رأيت البعض يرسل رسائل خاصّة ليمتدح ما أكتب دون أن يجرؤ على كتابة ذلك جهرا. إنّها النرجسية أيضا.
صداقة المتأدلجين جحيم. باب مفتوح على اغتيالات كثيرة. اغتيال العقل ليظلّ الصّنم. اغتيال الصّداقة لتظلّ العقيدة.
أجمل الصداقات في يوم الصداقة تلك التي جاءت عفويّة وكان سببها ما تكتب. تطلب رقم هاتفك وتهاتفك لتقول لك: قرأت روايتك وشعرت أنّك تكتبينني. أشعر أنّك صديقتي. هكذا بدأت صداقات كثيرة لي. محلّها القلب.
أمّا هؤلاء الذين تجد روحك في نصوصهم وتعثر وأنت تتعثّر في حروفهم على المعنى الفارّ منك أو على فكرة أردت أن تقولها فقالها مكتملة فتفرح كطفلة وتشعر أنّك اكتملت به، هؤلاء أصدقاء لم ترهم مطلقا وقد لا تراهم مطلقا لكنّهم يحتلّون جزءا من حياتك، يغيّرونك بعمق، يُفرِحونك برفق. ينبّهونك إلى أخطائك بلطف. واحيانا بعنف جميل. يحضرون في مخيّلتك جميلين جدا.
أما هؤلاء، حين تتعب عيناك وتصيرين عاجزة عن مراجعة كتابك يعطونك عيونهم ويراجعون معك النصّ مرّات ومرّات، هؤلاء أصدقاء من طينة الملائكة. ويراسلونك فوق هذا ليشكروا لك إتاحتهم فرصة قراءة نصّك قبل الآخرين. وأنت تعلمين أنّك أتعبتهم فوق الإمكان. فتخجل وتحتار وترتبك وفوق هذا يقولون لك إنّّك تغيّرين حياتهم بوجودك.
هؤلاء أقول لهم في عيد الصّداقة اليوم: أحبّكم كثيرا.
دامت صداقتنا جميعا، في هذا الفضاء الذي يشبه رملا متحرّكا.