تدوينات تونسية

زبدة المناشدة و متلازمة الاستبداد

فتحي الشوك

دوما ما تنتابني حالة هي مزيج من اليأس والأمل ليتقمّصني سعيد ابي النحس المتشائل وانا اتأمّل لوحة حالنا ومآلنا، صورة تشكيلية معقّدة كاحدى رسوم بيكاسو، اناركية وواقعية وعدميّة، والوان داكنة وبعض نقاط ضوء، تخالها للوهلة الاولى ساكنة ثابتة لتكتشف فيها حركة دائبة.
دواعي تفاؤلي هي تلك الصورة الجميلة لمراسم تأبين ثاني رئيس عربي منتخب ديمقراطيا بعد الرّئيس الشهيد محمد مرسي وما كان ليحدث ذلك لولا النجاح النسبي للثورة التونسية وتضحيات شهداء الحرّية والكرامة، وهو ما اراد البعض تغييبه تزييفا للوعي وتحريفا لتاريخ مازلنا نعايشه.
مراسم دفن لرئيس قام بوظيفته، أخطأ وأصاب لينعاه غالبية شعبه، معارضيه ومنتقديه قبل مناصريه الّذين تخلّوا عنه لفترة كما تخلّوا من قبل عن “زعيمهم” بورقيبة وتركوه وحيدا في غرفة معزولة وأقصى أمانية علبة “ياغورت”.
من تابع ما ينقل حينها حول الرّئيس الرّاحل يشكّ في أنّهم يتحدّثون عن نفس الشّخص الّذي عرفناه وخبرناه وكان فعلا رجل دولة وجنّب البلاد مغامرات المقامرين السيكوباثيين لكنّه لم يكن كما يصوّر خارقا للعادة أو نصف إله!
هو نفخ من قبل كهنوت المعبد وصناعة لإله جديد، يمكنهم من خلال غياب صاحب الشأن ان يشغّلوا معاولهم لنحت الصّورة الّتي يريدون، بعض الصّفات الخارقة لتكتمل الخرافة وتقبل في المخيال الجمعي المتعطّش للخلاص.
هي صناعة لبطل منقذ ملهم مخلّص واستثارة لتلك الحاجة عند المصابين بعقدة النظام الأبوي ومتلازمة الاستبداد.
يقول قائل وما الفائدة من النفخ في ميّت ؟ والاجابة هو استنساخ له مثالا يواصل مسيرته وقيادته وهو حيّ يصنع على مهل في مختبراتهم وينفخ فيه بالتوازي مع النفخ في الميت.
تزامنا مع اجواء الحزن والطقوس الجنائزية كانت طقوس أخرى تجري لتناسخ الأرواح ولصناعة منقذ مخلّص ملهم.
صفحات مناشدة ظهرت فجأة أكثر فجاجة من تلك الّتي كانت تصدر زمن المخلوع بن علي تستجدي وزير الدفاع الزبيدي في أن يترشّح وينقذ البلاد ويخلّصها ممّا هي فيه.
لا احد يشكّ في نزاهة الرّجل وكفاءته في مجاله الأكاديمي والوظيفي وقد كان استاذي كما الدكتور المرزوقي وقد تخرّج على ايديهما آلاف الأطبّاء، لكن أن يتمّ الأمر بتلك الطريقة يطرح أكثر من سؤال.
فلا اعتقد أنّ مناشديه يهمّهم كفاءته أو سجلّه الشخصي بقدر اعتقادهم بأنّ علاقته بالجيش ستسمح له بأن يكون مشروع مستبدّ في محاولة جديدة لتوريط جيش تونسي كان وطنيا واستثناء بكلّ المقاييس، الى جانب توفّر ضوء أخضر أجنبي مع استجابته للمعادلة الّتي تحكم تونس بين “السواحلية” و”البلدية”.
سبق للسيد الزبيدي بأن صرّح بأنّه لا يصلح للسياسة لأنّها تتطلّب الكذب كما اتّهم كلّ الطّبقة السياسية بأنّها سبب ما آلت اليه الأوضاع ليطرحه البعض الآن بديلا لمن تسبّب في الفشل.
ولا شكّ انّ هذه الافكار تجد لها حاضنة وتقبّلا لدى البعض ممّن تطبّعوا بالاستبداد ويحنّون للاسطبل والعصا والتبن بما أنّ الحرّية لم تجلب لهم سوى المهالك وكانت بالنّسبة لهم شرّ خالص.
يسندهم في ذلك من يعتقدون انّ البلد مختطف ويجب استرجاعه وفق سرديتهم التاريخية وعقد ملكيّتهم غير القابل للنّقاش، وبالطبع الى جانب طفيليات الاقصائيين الّذين لا يحتملون لونا أو رأيا مخالفا.
ومن وراء الجميع الوصيّة فرنسا ومحور الشرّ العربي الّذي لا يحتمل أن تظهر في صحاري توحّشه واحة للحرّية.
قد يكون ذاك الانتقال السلس للسلطة الّذي أبهر العالم هدوءا يسبق العاصفة لذا فالحذر واجب وعلى المؤمنين حقا بالديمقراطية والحرّية كقيمة إنسانية أن تتكاثف جهودهم لصدّ أدعيائها واعدائها.
رحم الله الرّئيس محمد الباجي قائد السبسي وحفظ الله تونس.
د.محمد فتحي الشوك.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock