هل يعتذر كل من البنك الدولي وصندوق النقد من تونس ويشطبان ديونها ؟

رجاء غرسة

قبيل انتهاء مهامها، وجهت هيئة الحقيقة والكرامة، المكلفة بالعدالة الانتقالية، مذكرة رسمية إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للاعتراف والاعتذار للتونسيين وإلغاء الديون غير الشرعية، وذلك بعد ثبوت مسؤولية هاتين المؤسستين الدوليتين في ارتكاب انتهاكات على مر عقود، وتحديدًا انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ضد الشعب التونسي وفق ما انتهت إليه تحريّات الهيئة.
وفي المذكرة المُرسلة عن طريق وزارة الشؤون الخارجية، دعت الهيئة البنك الدولي وصندوق النقد إلى اتخاذ التدابير الضرورية لجبر ضرر الضحايا، أفرادًا أو جماعات أو جهات مهمّشة، وكل التونسيين، التي تمثلهم الدولة التونسية وذلك بالتعويض عبر لجنة خاصة يقع إنشاؤها لتقييم هذه الأضرار.
ويأتي هذا الإجراء تنفيذًا لقرار مجلس الهيئة المنعقد بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول 2018 بعد معاينة الانتهاكات الحاصلة بسبب السياسات المفروضة على الدولة التونسية بما أضر بالاقتصاد الوطني وبالمواطنين التونسيين، عدا عن الآثار السلبية على البيئة خاصة في منطقتي الحوض المنجمي وخليج قابس.

المذكرة الرسمية التي وجهتها هيئة الحقيقة والكرامة إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي

وتتمثل مسؤولية المؤسستين تحديدًا في سياسة الإملاءات التي فرضتهما في إطار شروط منح القروض ومخطّط التكييف الهيكلي الذي كانت نتيجته ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خاصة منها المرتبطة بالاحتجاجات الشعبية على خلفية هذه التوجيهات التي أدت إلى تخلي الدولة عن دورها.
وتمظهر هذا التخلي، وفق ما جاء في نص المذكرة، عبر تخفيض المساهمات في صندوق الدعم وتخفيض الميزانيات الاجتماعية في قطاعيْ الصحة والتعليم وتجميد الأجور وتخفيض الانتدابات، ما أدى إلى الاعتداء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين وتصاعد الاحتجاجات وإدخال الاقتصاد الوطني في أزمة حادة انتهت بصدامات شرسة بين الأمن والمواطنين وسقوط عدد من الضحايا.
كما حمّلت المذكّرة المؤسستين الدوليتين الآثار البيئية التي خلفتها السياسة المفروضة على السلطات التونسية بتوسيع النشاط في منطقة الحوض المنجمي بقفصة وفي خليج قابس، وما خلّفه ذلك من دمار على النظام البيئي وما له من انعكاسات خطيرة على صحة المواطنين. وأكدت أن البنك الدولي لم يحترم التوجيهات البيئية والصحية والأمنية العامة لمجموعة البنك الدولي المتعلقة بالبيئة.
كما أكدت مذكرة هيئة الحقيقة والكرامة أنه كان للمؤسستين دور في ارتفاع مستوى المديونية عبر فرض مخطط الإصلاحات الهيكلية وإجبار الدولة على تسديد ديون غير شرعية وفرض تحرير الدينار وهو ما زاد حدة الدين الخارجي، “وهو ما منع اعتماد تونس أنموذجًا اقتصاديًا خاصًا بها وأعاق استجابتها لمطالب مواطنيها الاجتماعية والاقتصادية”.
بن سدرين: يجب أن تتحول المذكرة إلى قضية رأي عام
سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، قالت في حديثها لـ”ألترا تونس، إن ضمانات الاستجابة لهذه الطلبات هي المعاهدات الدولية وقرار مجلس الأمم المتحدة المرفق للمذكرة والدستور التونسي والنصوص القانونية التي تنظم العلاقات الخارجية لتونس وتحكم ارتباطها بالمنظمات الدولية.
وأضافت في حديثها معنا أن هذه الاستجابة لن تأتي بشكل عفوي، وإنما بتحويلها إلى قضية رأي عام تحركها منظمات المجتمع المدني، معربة عن أملها في تحقيق المذكرة لأهدافها.
وعن دفع السلطات في تونس باتجاه التفاعل الايجابي من المؤسستين الماليتين مع المذكّرة، قالت بن سدرين إن تونس على أبواب الانتخابات التشريعية والرئاسية وهذا الملف هو ملف يهم مسائل مهمة تمثل حلولًا لمقاومة الأزمة الاقتصادية وقلب اتجاه الدين الخارجي، وأضافت أنه بمثابة اختبار لوطنية الإرادة السياسية لمن سيتصدّر المشهد السياسي في البلاد وذلك إذا ما كانوا سيحرصون على مصالح البلاد أو ذيولًا لمصالح خارجية، وفق تعبيرها.
لكنّ عبّرت محدثتنا عن أملها فيما سمته تفوق الروح الوطنية و”أن يكون من يطلب ثقة التونسيين في الانتخابات هو نفسه جديرًا بهذه الثقة”، وفق تعبيرها.
إملاءات المؤسسات الدولية سببًا في انتهاكات حقوق الإنسان
ورصدت هيئة الحقيقة والكرامة، في مذكرتها، مراحل التدخل في السياسة الاقتصادية للبلاد التونسية عندما قام البنك الدولي بأول مهمة له في تونس سنة 1959 قبل أن يؤدي مديره ايجين بلاك زيارته الرسمية الاولى للبلاد سنة 1960. وقد نصح البنك الدولي الحكومة التونسية، وقتها، بضرورة فك ارتباطها بقطاع الإنتاج وتخفيف الرقابة العمومية على الأنشطة الاقتصادية بالإضافة إلى تشجيعها على التوجه للاقتراض الخارجي لتمويل نموّها في حين أن نسبة الدين تجاوزت 37 في المائة.
وفي ماي/آيار 1983، أوصت بعثة الصندوق الدولي بتقييد الطلب الداخلي عن طريق تجميد الأجور وخفض مساهمة الدولة في صندوق دعم المواد الأساسية مع وقف الانتدابات في المؤسسات العمومية وضخّ الأموال في مؤسسات الدولة.
وتقول المذكرة إن البنك الدولي تحوّل خلال العشريتين في الستينيات والسبعينيات من “مساعد سرّي” إلى “إملاء سياسته” على الحكومة التونسية والتدخل المباشر في خياراتها الاقتصادية. وقد وافق في سبتمبر/أيلول 1986 على منح قرضين قطاعيين للفلاحة والصّناعة بقيمة 150 مليون دينار لكلّ منهما شريطة أن تلتزم الحكومة بعدم دعم المدخلات الفلاحية وخوصصة أكثر من نصف المؤسسات العمومية البالغ عددها 560 مؤسسة.
وتشير المذكرة أن البنك الدولي نفسه اعترف في تقرير صادر في ماي/آيار 2014 حول الحوكمة في المؤسسات العمومية، بأنه “حصلت موجة من الخوصصة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بسبب ضعف الأداء وارتفاع كلفة التشغيل ومتطلبات خطة التكييف الهيكلي”.
كما كشفت هيئة الحقيقة والكرامة في مذكرتها العلاقة بين سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحملة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي حصلت في علاقة بالاحتجاجات الشعبية بدءً بأحداث الخميس الأسود 26 جانفي/كانون الثاني 1978، وقد تلقت الهيئة ملفًا جماعيًا عن الاتحاد العام التونسي للشغل بصفته ممثلًا عن ضحايا هذه الأحداث بالإضافة إلى 909 شكوى فردية لمتضررين اُحيلت ستة منها على الدوائر القضائية المتخصصة.
وقد جاء في المذكّرة أن شرارة أحداث الخميس الأسود التي راح ضحيتها حوالي 200 قتيل وألف جريح، كانت عندما قرّرت الحكومة تطبيق توجيهات البنك الدولي وخرقت الميثاق الاجتماعي الذي وقّعته مع المنظّمة الشغلية.
وهو ما تكرر أيضًا في أحداث الخبز 1984 عندما قررت الحكومة الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الذي اشترط بدوره اتباع سياسة تقشّف والإلغاء التدريجي لصندوق دعم المواد الأساسية مما ضاعف أسعار مشتقات الحبوب بـ112 في المائة وهو ما أدخل البلاد في سلسلة من الاحتجاجات الشعبية انتهت بإطلاق النار على المتظاهرين. وقد تلقت الهيئة 1230 شكوى في هذه الأحداث التي راح ضحيتها العشرات، تمت إحالة ثمانية ملفات منها على الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية.
أما فيما يخصّ أحداث الحوض المنجمي بقفصة سنة 2008، كان لاعتماد خطة التكييف الهيكلي سنة 1986 المفروضة من البنك الدولي واعتماد سياسة التقشّف “عواقب وخيمة أضعفت التنمية الاقتصادية والإجتماعية للبلاد” وفق ما نطالعه في المذكرة.
وكانت إعادة هيكلة شركة فسفاط قفصة بموجب هذه الخطة تتمثل في تخفيض تدريجي لليد العاملة لتمر من 14 ألف سنة 1986 إلى 5300 سنة 2007 رغم أن الشركة كانت المشغّل الرئيسي في منطقة الحوض المنجمي ما أدى إلى ارتفاع البطالة وتدهور الأوضاع الاجتماعية في المنطقة، هو ما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية سنة 2008 ومن ثمة اندلاع مواجهات مع الأمن. وتحصي هيئة الحقيقة والكرامة تلقيها 1317 شكوى لضحايا انتهاكات حصلت خلال هذه الأحداث بين اعتداءات جسدية وانتهاكات جنسية.
وقد تواصلت آثار “إملاءات صندوق النقد الدولي” إلى غاية اندلاع ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، إذ دفعت سياسة التقشف المرتبطة بخطة المؤسسة الدولية إلى إضعاف قدرة الدولة على استيعاب أصحاب الشهائد العليا وهو أدى إلى احتجاجات مناهضة للبطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية والتمييز بين الجهات والتفشي الفساد في الدولة. وقد تلقت الهيئة 4445 شكوى لضحايا هذه الأحداث 163 منهم تتعلق بانتهاك الحق في الحياة و4282 ملفًّا يتعلق بانتهاكات جسدية بسبب الإفراط في استعمال القوة.
“الديون غير الشرعية”.. قروض لفائدة الأسرة الحاكمة وليس للاقتصاد التونسي
رصدت مذكرة الهيئة، أيضًا، آثار “التدخل المباشر” للبنك الدولي وصندوق النقد في الخيارات الاقتصادية للبلاد التونسية خاصة منها تفاقم المديونية، مؤكدة أنها “ديون غير شرعية” وذلك عندما عصف بالاقتصاد التونسي “تغيير جذري بسبب اعتماد خطة الإصلاح الهيكلي التي أدت إلى ارتباط وثيق لعدة قطاعات بالأسواق الخارجية”.
وأفادت أن الجزء الأكبر من ديون تونس الخارجية تم اقتراضها في فترة دكتاتورية المخلوع زين العابدين بن علي، كان يوظّفها أساسًا لإضفاء شرعية على نظامه الاستبدادي وشراء الولاءات والحفاظ على السلطة، ليتم تم تحويل وجهة هذه القروض من التنمية الاقتصادية إلى إثراء العائلة الحاكمة ونهب المال العام، وفق ما أوردته المذكورة.
وقد تلقت الهيئة، في هذا السياق، 17292 ملف ضحايا للانتهاكات الاقتصادية ونهب المال العام، من بينها 685 ملفًّا أودعها المكلف العام بنزاعات الدولة. وأضافت المذكرة أن أعمال التحقيق صلب الهيئة كشفت العلاقة المباشرة بين الفساد المالي وانتهاك حقوق الإنسان في فترة الدكتاتورية.
واستندت “الحقيقة والكرامة”، في إطار التأكيد على عدم شرعية الديون على أساس توظيفها لفائدة الأسرة الحاكمة والحفاظ على سلطة الاستبداد بدل تطوير الاقتصاد، على قرار البرلمان الأوروبي الصادر بتاريخ 10 ماي/آيار 2012 في الفقرة 6 منه التي جاء فيها: “تعتبر غير شرعية الديون الخارجية لدول شمال افريقيا والشرق الأوسط التي تحصلت عليها الأنظمة الديكتاتورية من أجل إثراء النخب السياسية والاقتصادية”.
وأوضحت المذكرة أنه بين عامي 2011 و2016، تم استخدام أكثر من 80 في المائة من القروض التي تحصلت عليها تونس لسداد الديون القديمة للنظام السابق وهو ما أدخل البلاد في مديونية مفرطة. وتضيف أنه وفي الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة اجتماعية واقتصادية، يعتبر سداد هذه الديون غير الشرعية تحويلًا لوجهة موارد مالية لا يتم استخدامها في قطاعات أساسية مثل تمويل مشاريع البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة كالتعليم والصحة والنقل وخلق مواطن شغل، وهو ما يمثل انتهاكًا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين.
وتحدثت المذكرة أيضًا عن تأثير السياسة المفروضة من صندوق النقد الدولي لتخفيض قيمة الدينار وهو ما تسبب في تضخّم الدين الخارجي. وأضافت أن الأزمة الاقتصادية تفاقمت في تونس رغم تعهد البنك الدولي وصندوق النقد ومجموعة الـ8 بدعم تونس في مرحلة انتقال ديمقراطي وتقديم مساعدات اقتصادية للحدّ من الأزمة التي كانت فتيل الثورة التونسية.
واعتبرت المذكرة أن سلطة المؤسستين الماليتين لازالت توجّه الخيارات الاقتصادية في تونس بعد الثورة وتحكم سياستها المالية والاقتصادية “عبر عصا الإملاءات وجزرة المنح”.
عن مسؤولية البنك الدولي وصندوق النقد في تدهور الوضع البيئي
لم يكن لخطة التكييف الهيكلي أثارها الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وانما كان لها انعكاس على البيئة بالخصوص بمناسبة إعادة تأهيل شركة “فسفاط قفصة” في إطار خطة التكييف الهيكلي. وتشير المذكرة إلى أن تنفيذ هذه الخطة أدى إلى إيقاف استغلال المناجم تحت الأرض بتعلّة تعصير الإنتاج واستغلال المناجم المفتوحة وهو ما تسبب في التلوث وحرم سكان منطقة الحوض المنجمي من الحق في بيئة سليمة مع ارتفاع المخاطر على صحتهم بل وكذا صحة مواشيهم.
وكانت قد اندمجت شركة فسفاط قفصة سنة 1994 مع المجمع الكيميائي التونسي لتحويل الفسفاط، ليكون هذا الأخير منذ ذلك التاريخ المسؤول الرئيسي عن القرارات الاستراتيجية للأنشطة المنجمية في تونس.
وهو ما أدى إلى تصدير مشاكل التلوث إلى خليج قابس أين توجد مصانع المواد الكيميائية وتحديدًا في المركب الكيميائي بغنوش أين طال التلوث كل من الهواء والتربة والمائدة المائية وكذا البحر في خليج قابس.
أمام هذا الوضع، تقول المذكرة إن البنك الدولي لم يقم بأي خطوة لتخفيف تدخله في منطقة الحوض المنجمي، رغم أهمية التزامه بالحد من مخاطر التلوث والمشاكل الصحية المرتبطة بالبيئة، بل بالعكس تجاهل دراسات حول التأثير على المحيط، مؤكدة، أن خطة التكييف الهيكلي مثلت أكبر خطر على المحيط البيئي من كل البرامج الأخرى.
وقد تلقت هيئة الحقيقة والكرامة 1617 شكوى حول التسريح الجماعي من شركة فسفاط قفصة، و239 شكوى لضحايا التلوث بسبب تلوث المياه الجوفية والإضرار بأراضيهم ومواشيهم عدا عن الأثار السرطانية. واستقبلت أيضًا، طيلة عهدتها، 73 ملفًا متعلقًا بفيضان النهر وفقدان الأرواح والمنازل، و9 ملفات لضحايا مصادرة الممتلكات بالقوة بدعوى توسيع طريق نقل الفسفاط زيادة على 36 ملفًّا جماعيًا في صلة بتلوث المحيط.
في قابس أيضًا، سجّلت الهيئة عدة شكاوى متعلقة بالتلوث بوجود معادن ثقيلة في التربة والمياه منها ملف جماعي لضحايا التأثيرات السرطانية بسبب التلوث الكيميائي بغنوش بالإضافة إلى ثلاثة ملفات أخرى من مارث والحامة وقابس متعلقة هي الأخرى بالتلوث البيئي للصناعات الكيميائية والتهديدات باختفاء الواحات البحرية، وذلك إضافة لـ105 شكوى فردية متعلقة بآثار التلوث الكيميائي على الصحة.
واعتمدت الهيئة في تحديدها لمسؤولية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على مخرجات أعمال البحث والتقصي في إطار ما بلغها من شكاوى بالإضافة إلى نتائج دراسات تمت في الغرض على المستويين الوطني والأممي.
ألترا تونس

Exit mobile version