نور الدين الغيلوفي
جيء بالمرحوم الباجي قايد السبسي ليكون خشبة إنقاذ لأولئك الذين تضرّروا من المنظومة الجديدة ممثَّلةً في ما أسفرت عنه انتخابات 2011 وما كان يمكن أن يتواصل في انتخابات 2014 لولا أنّ هؤلاء تنادوا لقطع الطريق على الطريق في اعتصام باردو الشهير الذي تغذّى على الروز بالفاكية…
جيء بالباجي مخلّصًا، فصنع له ولمن حوله سفينة جعل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلَه سمّاها نداء تونس: تشكيل سياسيّ حديث ولدته الضرورة سنة 2012… ضرورة الخلاص من “الخوانجية” وحلفائهم.. وجاءت كتابة العقد بعد واقعة الحمل به فلحس الحزب الوليد جميع مَن حول الباجي المنقذ على يمينه وعلى يساره وحتّى أولئك الذين جيء بهم من الأدغال إلى مدينة السياسة منبهرين بواجهاتها الجارفة أيّام المجلس الوطنيّ التأسيسيّ الذي كانت الانتخابات المفضية إليه مثل حاطب الليل يأتي بالغثّ والنفيس…
خاض نداء تونس انتخابات 2014 التشريعيّة وفاز بها كما فاز الباجي بانتخابات الرئاسة في الدور الثاني على الرئيس السابق الدكتور منصف المرزوقيّ، فصار رئيسا منتَخَبا من الشعب وتحوّل بمقتضى ذلك إلى قصر قرطاج ليحكم منه مستعينا بصورة لبورقيبة كان بن علي قد رماها في بعض الزوايا.. غير أنّ السيد الرئيس القادم على ظهور جياد الحداثة المتداخلة ليحكم تونس وجد نفسه أمام غابة من الإكراهات لم يقرأ لها حسابا.. لأنّه لم يقرأ الدستور جيّدا، ربّما، أو لأنّه كان مستهينا به أو طامعا في تعديله كما يريد…
اضطرّته نتائج انتخابات 2014 إلى انتهاج سياسة “التوافق” مع حركة النهضة الإسلامية وقد جيء به أساسا لينسفها من المشهد.. لقد أجبره إحرازها على الرتبة الثانية في الانتخابات التشريعيّة على التوافق معها لتشكيل الحكومة الأولى بقيادة الحبيب الصيد والحكومة الثانية بقيادة يوسف الشاهد.. وقد ساعدته هي على التوافق معها بما أبرزته من مرونة بدت في قبولها بمشاركة رمزية في الحكومة الأولى رأى فيها البعض وقتها مشاركة مُهينة لا توافق حجم الحركة في نتائج الانتخابات.. ووجد الرئيس نفسه مّضطرّا إلى الإذعان للدستور ولم تنفعه تعويذة بورقيبة التي اعتمدها للوصول إلى قصر قرطاج…
لقد دخل القصر وفي نفسه هوى بورقيبيّ لا يخفيه ولكنّ الدستور قد اضطرّه إلى مربّع من الصلوحيات لا يسمح له بتجاوزه.. ووجد، وهو الرئيس، السلطةَ موزّعة بين قصور ثلاثة: قرطاج والقصبة وباردو.. وكان قرطاج أضعفها.. فلم ير نفسه، وهو الرئيس، شبيها ببورقيبة ولا حتّى ببن علي.. لذلك لم يكن يخفي ما يجده من مرارة بسبب محدود سلطاته ومُحَاصَر صلاحياته.. ولم يفلح مستشاروه في الإشارة عليه بالقفز على الدستور…
يوم 25 جويلية تَوَفّى الباجي قايد السبسي عمرَه بعد ثنتين وتسعين سنة تجاوز فيها المعدّل العمري العام وقد استكمل جميع رغائبه وأسعفه عمره الطويل بأن أجاب عن أسئلة الامتحان كلها ولم يتبقّ له غير امتحان السماء.. وذلك ليس من شأننا الخوض فيه…
غير أنّ سيادة الرئيس قد حَظِيَ بجنازة أرضية كبرى تليق بالكبار الصاعدين إلى السماء أنجزتها له الدولة التي كان طوال حياته خادما لها مدافعا عن اسمها كما يرى ويريد.. وكما يقول.. جنازة لا تخضع لإكراهات الدستور لأنّ الدساتير لا تلاحق الأموات عند توديعهم.