نور الدين الغيلوفي
صوّر الشاعر الكبير مظفّر النوّاب بعض مأزق العرب ببراعة نادرة عندما قال عبارته الشهيرة
(جوعٌ وثلاثةُ أنهار)
صورة ترسم مفارقة فاضحة لقوم نزل عليهم الماء جمعًا فأهرقوه وظلّوا عاكفين على جوعهم رغم غزير مائهم.. العرب أهل الأنهار لم ينجحوا في استنبات الحياة من مياه أنهارهم فافترسهم الجوع…
في تونس كانت السياسة في زمن الدكتاتورية مواتًا.. ولمّا قامت الثورة (نعم قامت هنا ثورة) دبّت الحياة في البلاد ونبتت الأحزاب السياسية.. وتكاثرت كما يتكاثر الفطر.. وقد كان كثير من الفِطْر سامًّا.. أمّا الفِطر الصالح فلم ينضج بعد.. لا يزال يصارع أسباب الموت المزروع في التربة من زمن بعيد.. الأحزاب السياسية إن لم تكن من الفِطر السام كانت من النوع الذي فقد اللون والطعم والرائحة.. والمنفعة…
جميعها أحسن تدبير الكذب على الشعب، في برامج تصلح لتحويل صحراء الربع الغالي إلى جنّات عدن تجري تحتها الأنهار.. ولم تنجح في بناء الصدق…
نعم، الإكراهات كثيرة والعقبات لا تُحصى والفيروسات المهاجرة إلى بلادنا مرسَلَة لا قيد عليها.. ولكنّ الفشل هيكليّ لأنّ الإبداع قتيل.. ولا خيال.. ولا أحد يريد أن يرجع إلى ذاته ليتّهم حَصاتَهُ.. الفشل يتيم والعجز مثل لقيط ولدوه في الظلام وأنكروا نَسَبَهُ.. وكلّهم.. فرادى مستقلّين ومنظّماتٍ وأحزابًا يتهافتون على الترشّح للمناصب ويتداعون على المواقع.. كلّهم بارعون في تشخيص الأدواء درسوا الطبّ على أشهر الأساتذة ولكنّهم يقفون أمام المريض عاجزين يستعينون على حالته بالشعوذة حينا وبالسحر حينا وبالكذب أحيانا وبالاستعانة بصديق لا خير فيه في غير حين.. ولو أنّهم اقتنوا مرايا وقفوا أمامها لرأوا ما يُخجلهم ولاستنكفوا وارعووا.. ربّما…
هو فيضان حمّال غثاء..
ولكنّنا سننتظر مرور الغثاء ولنجدنّ جحرا بالوادي يصلح للبناء.. نقيم به القواعد بعيدا عن مصبّات الغثاء..
ولن نيأس رغم علوّ الماء..
سيكون من نهرنا حياة…
لست أشكّ في كون ذلك…