صالح التيزاوي
رغم حزن اللّحظة ومهابة الموكب أمام مصيبة الموت، فقد برزت جملة من الحقائق، اقترنت بأوّل توديع رسمي وشعبي لرئيس تونسي وافته المنيّة أثناء فترة حكمه.
لعلّ أبرزها تعثّر الرّئيس المؤقّت في تلاوة آية سهلة من القرآن الكريم وهي كثيرة التّداول في مثل هذه المناسبات ولم يهتد إلى تلاوتها على الوجه الصّحيح إلّا بعد العودة إلى
جذاذته..
أسلوب التعليق على أحداث الموكب كان باهتا إلى حدّ كبير لم يرتق إلى مستوى اللّحظة، وقد طغى عليه تمجيد الرّئيس بورقيبة بطريقة غطّت على فقيد تونس الحالي رحمه اللّه. فهل كان المذيع ومرافقه في التّغطية الإعلاميّة يواكبان تأبين الباجي قائد السّبسي أم الحبيب بورقيبة؟ وهل في ماجرى انتصار لبورقيبة ممّا لحقه من إهانة على يد صانع جريمة السّابع من نوفمبر الذي حرمه شيخوخة مريحة وتأبينا يليق به؟
بعد جهد جهيد تبيّنت أنّ من كان يرافق المذيع في تغطية الحدث، هو ذاك المؤرّخ سليل الشّعب، الذي برّأ فرنسا من تهمة نهب الثّروات الباطنيّة لتونس بحجّة ما كان أسخفها من حجّة، وهي أنّ استغلال النّفط في تونس بدأ بعد عام 1960. وكان ذلك في إطار ردّه على وثائق السّيدة سهام بن سدرين. كما كان ضمن السّتّين مؤرّخا الذين أفتوا بصحّة استقلال تونس على مذهب الصبايحيّة…
كان السّؤال الملحّ: من الذي اختار هذا المؤرّخ دون غيره من مؤرّخي تونس الموثوق بهم، ليرافق صوتا إعلاميّا غير معروف في تغطية موكب تأبين ودفن رئيس تونس المنتخب ديمقراطيّا من الشّعب بعد الثّورة؟
مؤرّخ الغلبة غلبت عليه نزعته الحزبيّة وانتماؤه التّجمّعي فأفرغ الحدث من رمزيّاته العميقة ودلالاته الكبرى، وهي أنٍ التّونسيين يودّعون في تاريخهم المعاصر أوّل رئيس منتخب من الشّعب، وأنّ تونس تشهد ثالث انتقال سلمي للسّلطة في مدّة لا تتجاوز ثمانية أعوام.. كلّ ذلك بفضل ثورة شعبها وبفضل دستور توافقي لا أحد من الزّعامات أو من الأحزاب يمكن أن ينسبه لنفسه، وبفضل مؤسّساتها الدّيمقراطيّة، وهو ما عجز عنه نظام الحزب الواحد طيلة الحقبتين البورقيبيّة والنّوفمبريّة، التي ناهزت السّتّين عاما..
غابت عمّن يعتبر نفسه مختصّا في التّاريخ المعاصر حقيقة الثّورة وحقيقة أنّ الرّئيس الذي يودّعه شعبه ما كان له أن يحظى بهذا التّبجيل والتّقدير لولا ثورة الحرّيّة والكرامة، فقد غيّبه المخلوع عن المشهد السّياسي لمدّة عشرين عاما، ثمٍ عاد بفضل الثّورة التي لا يريدون ذكرها والتي لم يدّخروا جهدا في تشويهها. لئن كان مختصّا في التّاريخ المعاصر فإنّ رأسه مدفون في مرحلة ما قبل العصر الوسيط.. تحليل سطحي طغى عليه تمجيد بورقيبة حتّى على حساب الفقيد الحالي، ولا يذكره إلّا كامتداد لبورقيبة.
وعلى الضّفّة الأخرى في قناة أخرى تابعت زميله المؤرّخ عبد اللّطيف الحنّاشي وهو ينطلق من اللّحظة التّاريخيّة ويستدعي الماضي بطريقة موضوعيّة ويستشرف المستقبل بأسلوب واقعي، ليس فيه تأليه للأشخاص ولا توظيف حزبي وسياسي، وليس فيه تزييف لحقائق التّاريخ، يعطي للفقيد حقٍّه وللثّورة حقّها ولتونس حقّها الأوفر.