في عالمه البرزخيّ
سامي براهم
تبحث عن أليق عبارة وأعدلها وأدقّها لوصف الرّئيس المتوفّى بعيدا عن الأحكام المعياريّة قدحًا ومدحًا، وخارج سياقات التّأبين والعزاء والخطاب الجنائزي التّمجيدي وسفسطة بعض المعلّقين وثرثرتهم المتكلّفة، وتنطّع عدد من المتفيقهين المتعالمين المصادرين على اللطائف والرّحمات الربّانيّة، فلا يتبادر في ذهنك إلا ما يعبّر عن عن مفارقة عجيبة تلخّص سيرته بعد الثّورة :
“هو رجل روّضته الثّورة وروّضها”
روّضته وهو سليل سرديّة دولة الاستقلال بما فيها من مآثر ومفاخر وما خلّفته من تركة مظالم وانتهاك للحقوق، سيرة مزدوجة بين تجربة الدّولة الوطنيّة وفلسفة الحكم الفردي للزّعيم الأوحد، وتجربة محدودة في الزّمن ولكن مهمّة في تأسيس أوّل تعبيرة من داخل منظومة الحكم ضاقت ذرعا بالحكم الفردي وخنق الحريات وإجهاض الديمقراطيّة :
“جريدة الرّأي / حركة الدّيمقراطيين الاشتراكيين”.
لكن سرعان ما عاد إلى حضيرة “الحبيب” في مهام سامية بالدّولة من داخل منظومة الحكم التي أخذ منها مسافة نقديّة لوقت قصير، ثمّ يغيب ويعود بعد الانقلاب النّوفمبريّ على رفيقه ليمارس مهامّ صلب الدّولة ثم يغيب من جديد ليظهر بعد الثّورة، تحديدا بعد القصبة 2 ليكون حلقة العبور الأساسيّة من المنظومة القديمة إلى منظومة الثّورة.
أعلن منذ أيّامه الأولى في القصبة أنّه لا يحكم إلا وحده أي بمقتضى ما يمليه عليه عقله وتقديره للأشياء وشرعيّته التّاريخيّة، وظنّ أنّ بإمكانه أن يسير في الثّورة بنفس سيرته زمن الحكم البورقيبي، لكنّه وجد نفسه مسيّجا بضمير الثّورة واستحقاقاتها ومطالبها ونسقها السّريع في إنتاج آليّاتها وهيآتها وقوانينها وضميرها ومزاجها العام.
حاول أن يغالب أوّل منظومة حكم أفرزتها الثورة وتقمّص دور المنقذ في جبهة كادت تعصف باستقرار البلد وأمنه وسلمه الأهلي ووحدته ودستوره و ديمقراطيّته النّاشئة، لكن سرعان ما انتبه إلى خطورة اللعبة أمام ما أدركه من حقيقة ماثلة مفادها أنّ الثّورة أمر واقع لا يمكن تجاوزه أو الرّجوع به إلى الوراء، ولكن يمكن ترويض جموحه وافتكاك موقع للمنظومة القديمة في المشهد الجديد من داخل شروط الثّورة وآليّاتها ومؤسّساتها.
كان التّوافق في الحقيقة والعمق والرّمز والمعنى بين طرفين أساسيين هما الضحيّة والجلّاد، ذهبا إليه بتفاوت لدينا في تقدير حجم دوافعه هل هي الإكراهات والذّرائعيّة أو الوعي الذّاتي بالتوافق كبراديغم في الحياة السياسيّة.
روّضته الثّورة رغم كلّ نداءات الشّحن الدّاخلي والخارجي والتّحريض على النّهج الانقلابي والاستئصالي لكنّه لم يستجب لها لاستشرافه سوء منقلبها وخطورة مآلاتها على الجميع.
لكنّه كذلك روّض الثّورة من خلال القدر الذي افتكّه منها لإعادة المنظومة القديمة إلى واجهة المشهد والتطبيع بينها وبين منظومة الثّورة سواء بالمغالبة أو المناورة أو المقايضة أو التوافقات، كان البلد طيلة الفترة الماضية ورشة للاختبار والتّجريب في كلّ المجالات، ولم يكن أغلب الفاعلين فيه يصدرون عن رؤية تعبّر عن نضج سياسي وحسّ استراتيجي بل عن صراع مصالح وتموقعات وإعادة انتشار وتوزيع لمراكز النفوذ والتّوازنات.
روّض الخصوم والموالين في حدود الهامش الذي وفّره الدّستور من صلاحيات وإمكانات للمناورة والتّأويل، وكان يتوقّف مذعنا وربّما على مضض كلّما اصطدم بسقف الثّورة والدّستور والرّأي العام، يغالب ما استطاع إلى ذلك سبيلا ويحاول افتكاك ما يمكن افتكاكه ثمّ سرعان ما يذعن مسلّما بالواقع الجديد.
ربّما ساعده على الانخراط في دائرة ممارسة فنّ الترويض والقابليّة للترويض هو ازدواج الرصيد التاريخي الذي كان يحمله قبل الثّورة بين نمطين من التفكير: نمط يمثّله الزّعيم بورقيبة صاحب سياسة الحزب الواحد، ونمط يمثّله أحمد المستيري أب الدّيمقراطيّة التّونسيّة قبل الثّورة بدون منازع.
وَعَى بالثّورة واستحقاقاتها واحترم وحمى بعض مخرجاتها ولكنّه لم يمتلئ بها بالشكل الذي يجعله أحد رموزها وأصحاب المصلحة الكاملة فيها “الموقف من العدالة الانتقاليّة نموذجا”، لذلك بقي يغالب إلى آخر أيّام حياته من أجل التّطبيع بين القديم والجديد.
لذلك هو في السياسة في عالم برزخيّ بين القديم والجديد: بين منظومة التّأسيس الأولى المتلبّسة بالحكم الفردي ومنظومة الثّورة المتطلّعة لحكم الشّعب.
رحمه الله في برزخه الأخروي وللتّاريخ قول في برزخه الدّنيويّ.