فتحي المسكيني
• مات الباجي قايد السبسي، مات الشخص. هو الآن في حرمة الموت. محميّ من كلّ حماقات اللغة.
• لكنّ من يموت رئيسا لا يحتاج إلى أيّ نوع من العزاء؛ لأنّ موته ليس ملكاً له، فهو جزء من سردية أكبر منه.
• ولأنّ الدولة ليست شخصًا؛ فإنّ الرؤساء لا يموتون. إنّهم يتقلّدون مهامّاً أخرى في مستقبلنا؛
• ينتمي الرؤساء -عرضاً دون أيّ تبرير أخلاقي آخر- إلى دائرة الذوات الرمزية التي أسّست عليها الإنسانية كل أشكال الحكم إلى حدّ الآن، نعني بعامة ثلاثيّة الآباء/ الآلهة/ الملوك المؤسّسين. لكنّ الثورات غيّرت من وظيفتهم: لقد انتهى الحاكم الهووي وصارت الشعوب متروكة لنفسها، محكوما عليها بالانتقال السلس والذي لا مناص منه من الشخص إلى المؤسسة. وكان السبسي رئيسا مرحاً، في نوع من السخرية اللطيفة من المنصب الذي وصله بعد نهاية الدكتاتوريات.
• ولذلك فإنّ موت ‘الرئيس الأخير’ -فهو رمز لجيل سياسي لم يعد موجودا- يثير لدى أطياف كثيرة من الشعب مشاعر غامضة ومتنافرة من اليتم والتيه والخوف. لكنّها مشاعر خاطفة لا تؤثّر إلاّ على القاصرين والحائرين والرعايا. أمّا “المواطنون”، أي من شَفُوا من قصور الطفل وحيرة التابع وولاية الرعية، فإنّهم لن يجدوا أيّ صعوبة خاصة في تقبّل موت الرؤساء كجزء من إدارة الشأن العام بواسطة المؤسسات. الموت الرسمي هو أيضا عمل مؤسساتي محترف على المواطنين تقبّله وتقاسم عبئه وترجمته في واجبات وطنيّة ليست منّة من أحد على أحد.
• “نحن” ورثاء متعدّدون ومختلفون من الداخل لتاريخ متعدد ومختلف لوطن واحد، لكن ليس لدينا نفس عمر الانتماء إلى مصادر أنفسنا. ولذلك كل تركيز على الشخص هو ينبع من ثقافة هوويّة، حيث لا يزال توثين الأشخاص هو الوسيلة الوحيدة للاعتراف بشرعيتهم؛ لكنّ الموت الكبير يمكن أن يكون تمرينا جيّدا لخطاب ما-بعد-الهوية. – فقد اختار أن يقف في بقعة من الظلمة بين “المدنيين” و”الدينيين”؛ فخدم الاثنين دون أن يرضي أيّاً من الطرفين. ربما كان ذلك تمرينا أخيرا لنا: أنّ من يترأس دولة لا يحكمها، بل يفاوض أطراف الحكم على حالة محتملة من التعايش بين المتخاصمين على رحم واحد.
• في تونس -بفضل الثورة- انتهت سرديات الحاكم الهووي والزعيم الأوحد والخليفة المهدي والداهية الأعظم…؛ وبدأ تاريخ الرؤساء/ “موظّفيّ الشأن العام”، المتصرّفين العرضيين لمؤسّسات طويلة الأمد، يخدمونها لكنّها لا تراهم إلاّ كأدوار إجرائيّة داخل عملها. لذلك فإنّ موت الرئيس ليس تهمة له، بل فقط مزحة ديمقراطية لم يتسنّ له أن يقصّها علينا.
• لا تعبؤوا بالذين يجدّفون على موته بفصاحة مالحة؛ إنّ هجاء الميّت ليس فخرا لأحد.