أوّل عيد جمهوريّة حقيقي في تاريخ تونس..!!

عبد اللّطيف درباله

بدون أيّ احتفالات أو بهرج أو خطب رنّانة أو كلام منمّق أو مئات الضيوف أو نشيد رسميّ أو زينة أو غناء أو مشروبات أو توزيع للأوسمة..
بدون أيّ بروتوكولات ظاهريّة وسخيفة وكاذبة ومعتادة ككلّ عام..
وبرغم تسجيل حدث جلل هو وفاة رئيس الجمهوريّة..
ربّما كان عيد الجمهوريّة اليوم 25 جويلية 2019.. هو أفضل وأصدق عيد جمهوريّة منذ الإستقلال.. ومنذ إعلان تأسيس الجمهوريّة في 25 جويلية 1957..!!!
فلقد شعر الشعب التونسي لأوّل مرّة بمعنى النظام الجمهوري فعلا..!!
لقد شعر المواطن التونسي اليوم فعلا بأنّه يعيش في نظام جمهوري..
وشعر أنّ لديه دستورا…
وأنّ لديه دولة..
ولديه هياكل..
ولديه مؤسّسات..
ولديه قانون..
ولديه نظام..
ولديه سياسة..
ولديه سياسيّين يحترمون إرادته..
شعر المواطنون التونسيّون اليوم فعلا أنّهم يعيشون في دولة تحترم إرادتهم.. وتخضع لحقّهم في اختيار حكامهم..
ولا يعيشون في إقطاعيّة على ملك حكّامهم.. ولا في شبه دولة يكون الزعيم فيها هو الدولة..!!
احتفلنا بعيد الجمهوريّة الحقيقي اليوم.. برغم غياب الاحتفالات المعتادة.. وبرغم الصمت.. وبرغم الوفاة..
اليوم.. وقع فعليّا تفعيل النظام الجمهوري حقيقة.. في أبهى مظاهره ومعانيه..
واليوم احتفل التونسيّون ضمنيّا وبوضوح بأفضل عيد جمهوريّة في حياتهم.. ولو بدون حتّى أيّ احتفال ظاهر..
عاش الشعب التونسي..
عاشت تونس..
عاشت الجمهوريّة..
توفيّ رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي رحمه الله.
رئاسة الجمهوريّة أعلنت دخوله للمستشفى قبل ساعات..
ثمّ أعلنت الرئاسة وفاة الرئيس للعلن فورا ببلاغ رسميّ للشعب بعد أقلّ من ساعة من توقيت الوفاة..
في بلدان أخرى عديدة.. ديكتاتوريّة.. من البلدان التي كانت تونس تنتمي لها إلى سنة 2011.. يستغرق الإعلان عن وفاة الحاكم أو “الزعيم”.. ساعات طويلة.. وربّما أيّاما.. إلى أن يتمّ ترتيب انتقال السلطة من وراء الستار.. وتنتهي الصراعات والمؤامرات.. ويضمن المسيطر على الحكم استقرار الأمور لفائدته ليعلن وفاة الحاكم بعد أن ضمن نهائيّا السلطة لنفسه..!!!
مات الرئيس اليوم..
والمواطنون التونسيّون واصلوا حياتهم بطريقة عاديّة اليوم.. منهم من خرج للتجوّل والترفيه.. ومنهم من يتسوّق.. ومنهم من يجلس بالمقاهي أو المطاعم أو الفنادق أو المنزل.. ومنهم من يسبح بالبحر.. ومنهم من يتابع الأخبار عبر مختلف وسائل الإعلام..
حتّى قوّات الأمن والجيش لم تستشعر أيّ خطر.. أو تخاف الفوضى.. فلم يلاحظ أيّ انتشار أمني زائد أو مكثّف أو غير معتاد بشوارع البلاد..
الجميع في تونس شعبا وحكومة وأمنا وجيشا.. واصلوا حياتهم الطبيعيّة.. وعملهم المعتاد.. بدون ارتباك أو خوف أو توجّس أو هلع.. مطمئنّين كما يظهر لوجود آليّة لانتقال السلطة في حالة وفاة رئيس الجمهوريّة فورا إلى رئيس مجلس النواب.. ومطمئنّين إلى تنظيم انتخابات رئاسيّة قادمة.. كان من الصدف أنّها مبرمجة أصلا إلى ما بعد ثلاثة أشهر..!!
اطمأنّ التونسيّون فقط لأنهم أصبحوا على ثقة بأنّ البلاد امتلكت منظومة دستوريّة وقانونيّة وسياسيّة (على عيوبها وهنّاتها ونقائصها).. لكنّها أصبحت موجودة فعلا.. وقويّة.. وفاعلة..
وزاد في اطمئنانهم أنّ الرئيس المتوفّي وصل إلى السلطة عبر الإنتخابات.. وأنّه كان سيغادر السلطة في كلّ الحالات عبر انتخابات جديدة.. لم يعلن ترشّحه لها.. وقد برمجت أصلا ليوم 17 نوفمبر القادم..
وحتّى في غياب برمجة سابقة للانتخابات الرئاسيّة وقرب موعدها.. فإنّ الدستور التونسي ينصّ على تنظيم الرئيس المؤقّت للانتخابات في أجل بين 45 و90 يوما..
ويجب أن تتمّ الانتخابات الرئاسيّة الجديدة والحالة تلك قبل يوم 23 أكتوبر..
وكان يمكن غضّ الطرف استثنائيّا عن تأخّر الانتخابات بشهر واحد إلى يوم 17 نوفمبر لسبق برمجتها والاطمئنان لتنظيمها في ذلك الموعد..
لكن توجد في تونس اليوم هيئة مستقلّة للإنتخابات قرّرت التطبيق الحرفي للدستور واحترام آجاله.. فاجتمعت حالاّ بعد أقلّ من أربع ساعات من وفاة رئيس الجمهوريّة.. وأعلنت فورا إعادة جدولة رزنامة الانتخابات لتتطابق مع الدستور ويتمّ إنتخاب الرئيس في أجل 90 يوما..
عندما يكون لديك نظام ديمقراطيّ.. ودستور.. وهيكلة للدولة.. ومؤسّسات.. وقوانين.. فإنّ الناس لا تخاف.. ولا تغرق في الفوضى.. ولا يأكلها القلق من المجهول.. إذ لا يتحكّم شخص في مصير دولة.. ومستقبل شعب..!!
في الأنظمة الديمقراطيّة.. مهما ارتفعت قيمة الأشخاص.. ومناصبهم.. وسلطتهم.. يموت الأشخاص والحكّام.. ويحيا الشعب.. وتستمرّ الدولة..!!!
رحم الله رئيس الجمهوريّة..
ويحيا الشعب التونسي..
وتحيا تونس..

Exit mobile version