مات الرئيس.. تحيا الجمهورية

عادل بن عبد الله

تصدير: “واعلم أن كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفس تذوق الحياة” جلال الدين الرومي
رغم الإخفاق في تشكيل المحكمة الدستورية وانتخاب أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورغم رفض الرئيس التونسي التوقيع على مشروع التنقيحات المُدخلة على القانون الانتخابي والإذن بنشرها في الرائد الرسمي للبلاد، كان من المفترض أن تحتفل البلاد يوم الخميس 25 تموز/ يوليو بالذكرى 63 بعيد الجمهورية؛ باعتبارها مناسبة رمزية جامعة لعموم التونسيين. ونظرا إلى حالته الصحية المتدهورة، فلم يكن التونسيون ينتظرون من رئيسهم أي دور بارز في احتفاليات هذه الذكرى. ولكنّ أكثر الأصوات تشاؤما لم تكن تتوقع أن يُفجع التونسيون بوفاة الرئيس بالتزامن مع ذكرى الجمهورية.
ولن يكون هذا المقال محاكمة للمرحوم ولا مجالا لتصفية الحسابات السياسية معه، ولكنه لن يكون أيضا محاولة لتبييض تاريخه السياسي قبل الثورة وبعدها، انطلاقا من مقولة “اذكروا موتاكم بخير”، فمنتهى ما نطمح إليه هو أن تكون وفاة رئيس الجمهورية مناسبةً لتقييم مبتسر لأداء الفاعلين الجماعيين في تونس بعد الثورة، بحثا عن استخلاص بعض الدروس التي قد تحتاجها البلاد مستقبلا لحماية الانتقال الديمقراطي الهش.
أمام فاجعة موت الرئيس، فيُجمع أغلب التونسيين اليوم على أن السيد الباجي قائد السبسي هو في ذمة الله باعتباره إنسانا، وفي ذمة التاريخ باعتباره سياسيا، له ما له وعليه ما عليه. كما يُجمعون (أمام غياب المحكمة الدستورية) على ضرورة أن تتحمل النخب السياسية مسؤوليتها، وتصل إلى تفاهمات تحترم نص الدستور ولا تنقلب على روحه. ولكنّ وقع الصدمة وهيمنة الخطابات “التأبينية”؛ يجب أن لا يحولا دون التعامل العقلاني والبارد مع الوضع الذي وصلت إليه البلاد والمقدمات التي أنتجته. وهو ما يعني واقعيا تجاوز مفردات التأبين أو المحاكمة لشخص الرئيس، والبحث عن الأسباب العميقة التي جعلت البلاد تعيش في عهده أزمات سياسية دورية، وهي أزمات لا يمكن إنكار المسؤولية الجزئية للرئيس عنها، ولا يمكن أيضا تبرئة باقي الفاعلين السياسيين والمدنيين عن المسؤولية فيها.
بعد مرحلة من الإبعاد عن العمل السياسي تجاوزت العشرين عاما، وجد الرئيس التونسي المرحوم قائد السبسي؛ نفسه بعد الثورة في مركز الحقل السياسي. فقد اختير لقيادة المرحلة الانتقالية (وفي صيغة المبني للمجهول دلالة على “خفاء” الجهات الحقيقية التي اختارته، أو فرضته على الوافدين الجدد على الفعل السياسي القانوني). ثم اختير لزعامة نداء تونس باعتباره الوريث الأبرز للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، واختير بعدها لقيادة “العائلة الديمقراطية” في إطار حربها المفتوحة ضد الترويكا، تلك الحرب التي فرضت عدم التنصيص على السن القصوى للترشح لرئاسة الجمهورية، وهو ما فهمه التونسيون باعتباره تمهيدا دستوريا لتولي السيد قائد السبسي رئاسة الجمهورية بعد انتخابات 2014. ولم يكن “الديمقراطيون” ولا “النهضويون” معنيين بتدبر هذا الواقع السياسي الجديد الذي سيدفع بشخص في العقد التاسع من عمره إلى سدة الرئاسة، كما لم يكن يعنيهم المطالبة بملفه الطبي وفقا للقانون.
لقد كان الجميع مطّلعين جيدا على التاريخ، وكانوا يعرفون النهايات المأساوية للعهد البورقيبي وما شهده من حرب مفتوحة بين مراكز القوى في القصر الرئاسي، تلك الحرب التي انتهت بانقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 بقيادة المخلوع الزين بن علي. ولكنّ ذلك كله لم يمنع القوى “الديمقراطية” من اعتماد “الانتخاب المفيد”، ولم يمنع حركة النهضة من خيار “التوافق”، وهما خياران سياسيان مبنيان على علاقة تكاد تكون “مشخصنة” مع المرحوم الباجي قائد السبسي. فالانتخاب المفيد الذي ارتضته العديد من القوى الديمقراطية كان مبنيا على تعهد المرحوم قائد السبسي بإقصاء النهضة والتحالف (وهو ما لم يقع، وكان من أسباب الانشقاقات التي عرفتها حركة نداء تونس)، أما التوافق فكان أيضا مبنيا على وجود السيد قائد السبسي باعتباره “ضمانة” لاستمراره، خاصةً مع وجود أصوات كثيرة رافضة لهذا التوافق داخل نداء تونس وشقوقه (وهو ما يجعل التوافق الآن في موضع حرج، خاصةً مع وجود قوى إقليمية ودولية ما زالت تطمح إلى ضرب “الاستثناء التونسي” القائم على الحكم المشترك بين العلمانيين والإسلاميين).
مهما كان تقييمنا للمرحوم قائد السبسي، فإن وجوده (ووفاته) على رأس الدولة التونسية يعكس جملة من الإرادات الجماعية التي تتجاوز شخصه. فالقوى السياسية التي أمضت على الدستور كانت تعي جيدا أنها لم تُسقط شرط السن الأقصى للترشح للرئاسة؛ إلا خضوعا للجهات التي كانت تدفع بالسيد قائد السبسي وبحزبه إلى مركز السلطة السياسية. أما المرحوم قائد السبسي، فإن فتنة السلطة ووراثة بورقيبة قد جعلتاه ينسى الحمل الثقيل الذي ينتظره وقد بلغ من العمر عتيّا. كما أنّ ثقافته السياسية التي تشكلت في عهد الزعيم-الحزب- الوطن كانت تمنعه من تقديم استقالته؛ مهما تعكرت حالته الصحية أو عجز عن الوفاء بواجباته الدستورية. وليس المرحوم قائد السبسي في هذا بِبدعٍ من الزعماء السياسيين في مختلف العائلات الأيديولوجية يمينا ويسارا، أولئك الزعماء الذين أثبتت مناخات الديمقراطية أنهم أرسخ الناس في ثقافة “عبادة الزعيم” والحكم مدى الحياة، ولو كانوا في المعارضة.
لقد جاءت وفاة السيد قائد السبسي رحمه الله لتضع النخب السياسية أمام محصول أدائهم منذ انتخابات 2014، بل منذ الثورة ذاتها. ومن الواضح أنّ غياب المحكمة الدستورية يجعل من المخرج من الأزمة مخرجا سياسيا توافقيا بالضرورة. فالدستور التونسي ينصّ في فصله 84 على ما يلي:” في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقرّ الشغور النهائي، وتبلّغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.” ولكنّ غياب المحكمة الدستورية يجب أن لا يمنع النخب السياسية من التوافق على أن يتولى رئيس المجلس النيابي مهام رئيس الدولة في الأجل الذي يُحدده الدستور. كما قد يكون على المجلس النيابي القادم وضع سن أقصى للترشح لمنصب الرئيس، وقد يكون عليه أيضا اشتراط تقديم الملف الطبي بصورة وجوبية، وجعل الإخلال بهذا الشرط موجبا لإسقاط الترشح.
ختاما، رغم وقع الفاجعة على التونسيين، فإنه يحقّ للتونسيين أن يفتخروا بأن ديمقراطيتهم قد جعلت رئيسهم يموت وهو يمارس سلطاته الدستورية، ولا يموت مقتولا أو منفيا. كما يحقّ للتونسيين أن يفتخروا بأن ديمقراطيتهم قد جعلت الخروج من الأزمة التي أعقبت وفاة رئيسهم لا يخرج عن الممكنات السياسية التوافقية، وذلك بصرف النظر عن الأصوات الشاذة التي اتخذت الموت وليجة لتصفية حساباتها “العقدية” مع المرحوم، أو لتصفية حساباتها السياسية مع خصومها. ورغم هذه الأصوات الانقلابية أو التكفيرية المرتهنة للمحور الإماراتي-السعودي (بوعي أو بلا وعي)، من المؤكد أن التونسيين سيخرجون من هذه الأزمة أكثر قوة واتحادا، وسيستخلصون الدروس من الوضع الهش الذي أفرزته خيارات نخبهم السياسية. ومن المؤكد أيضا أنّ رحيل السيد قائد السبسي سيكون فرصة لتجاوز زمن الزعامات، والدخول إلى زمن المؤسسات التي يجب أن تبقى بعد رحيل كل النخب، حاكمةً كانت أو معارضة.
عربي21

Exit mobile version