ثلاث محطات كبرى في مسيرة الباجي قائد السبسي ..
نصر الدين السويلمي
ميلاده وحياته، تعليمه ونشأته، المناصب التي تقلدها، مرضه ووفاته.. تلك معلومات سائبة يمكن التقاطها بسرعة من محركات البحث وسائر المواقع المختصة، لكن “من هو” يعني هويته السياسية، بصماته واختلافه عن غيره، يعني ما قدمه نسبة إلى نظرائه، هذا ما يجب ان نتطرق اليه، وهذا ما يجب تقريبه للتونسيين وليست ارقام الميلاد والوفاة وما تقلد بينهما من مناصب وسنوات المزاولة.
إذا تحدثنا عن الإنجاز بجدية تحترم العقل وتراعي عذابات الأجيال منذ الاستقلال الى حدود ثورة الحرية والكرامة فلا مجال إلى جرد مسيرة الرئيس الراحل خلال الحقبة البورقيبية والنوفمبرية، فلا السياقات تسمح بذلك ولا المقام مقام مقاربات دقيقة تستدعي الحالة الشمولية وتحاكم الرجل على شرطها.
وعليه نؤرخ للسبسي السياسي في طبعته الثالثة، انطلاقا من 27 فيفري 2011، ونحاول تجنب المطبات الهوائية والتركيز على الرسم البياني لرحلته في خطوطها العريضة ومحطاتها الكبرى، تلك التي يمكن اختزالها في رئاسته للحكومة من 27 فيفري إلى 24 ديسمبر 2011، وقيادته لحزب نداء تونس من 29 جوان 2012 الى 31 ديسمبر 2014، ثم اضطلاعه بمنصب رئيس الجمهورية من 31 ديسمبر 2014 الى 25 جويلية 2019 تاريخ وفاته.
خلال مرحلة قيادته لحكومة المرحلة الانتقالية التي خلف فيها محمد الغنوشي لم يصدر من الباجي ما يشير إلى أنه يرغب في تعطيل الانتقال الديمقراطي او يساعد على عودة المنظومة القديمة، كل ما بدر منه أنه حاول عبر إشارات معينة البقاء في منصبه بشكل قانوني دستوري من خلال تزكيته من طرف منظومة 23 أكتوبر، لكنه ولما لم يجد القبول تنحى بطريقة سلسلة ودون اي عراقيل او الغام، لينهي مرحلة اولى بأخطاء متعددة ولكن بسياق ناجح في عمومه، تمكنت عبره تونس من تنفيذ أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخها، بذلك يكون الباجي قدم لتونس تجربته دون أن يوظف تلك التجربة في عرقلة المسار، تلك مرحلة ناجحة تصب في رصيد الرجل، له لا عليه.
ثم جاءت مرحلة تأسيس النداء التي شابها ما شابها، كانت مرحلة حشد فيها السبسي كل شيء دون أن يترك خلفه ما يؤخذ عليه قانونيا، تمكن الرجل المخضرم من استعمال الكثير من مراكز النفوذ، إعلامية وسياسية وثقافية، استعمل حتى النقابي واستمال العائلة اليسارية التي تخندقت ضد النهضة مقابل النداء وضد المرزوقي مقابل السبسي، ومن خلف تجربة معروكة بالدهاء استمال قوى إقليمية وأطلق لها اشارات ذكية تفيد بانه يصلح للرهان عليه كثورة مضادة قادرة على استنساخ التجربة المصرية بخصوصيات تونسية، وفعلا اطمأنت الغرف الاقليمية الخبيثة للرجل وحزبه، وبدا وكأنهم يستعدون لاعلان تونس دولة “محررة” من ثورة سبعطاش ديسمبر.
تمكن الباجي من انتزاع لقب أول رئيس تونسي يتم انتخابه بالاقتراع المباشر من الشعب والرئيس الثاني الذي جاءت به الديمقراطية. ليباشر مهامه بصفعة موجعة وجهها إلى الثورة المضادة في تمثيليتها الإقليمية، لم يكتف الرئيس الجديد بالحفاظ على صيرورة التجربة، وإنما توافق مع زعيم النهضة ودفع حزبه الى التوافق مع النهضة، ما أثار حفيظة خصوم الثورة ودفعهم إلى البحث عن بدائل من خارج التجربة السبسية، لكنهم ظلوا متمسكين بالأمل الكاذب، لقد أتقن الرجل التسعيني مراقصتهم، فلا هو اعطاهم ما يريدون ولا اعلن القطيعة معهم ومع مخططاتهم، يستمع اليهم يثمن حرصهم على العلاقة الاخوية المتجذرة وعلى المصير المشترك والقضايا الملحة ويشيد طويلا بالأشقاء والجسور الممتدة والثوابت وسموه وجلالته.. ثم لا يقدم لهم غير السراب، لقد أسهم الباجي في زرع الإحباط داخل وكلاء الثورة المضادة فلا هو طلّق بإحسان ولا هو أمسك بمعروف، ومن فرط اضطرابهم ذهبوا يبحثون عن حاجاتهم لدى حثالة الحثالة.
شكل الباجي الى جانب الغنوشي والمرزوقي معضلة لخصوم الثورة وغرفتهم الإقليمية، فبينما الباجي يهادن بل ويغازل الى حد استقبال محمد بن سلمان وحفتر في القصر، يمارس الغنوشي الصمت ويمعن في التجاهل رغم انه المستهدف رقم واحد، في الاثناء لا يفوت المرزوقي فرصة الا وشنع بهم!!! رئيس سابق وواجهة من واجهات التجربة يهاجم بلا هوادة، رئيس الحزب الاكبر والاكثر تاثيرا في التجربة يتجاهل بلا هوادة ورئيس الجمهورية يهادن بلا هوادة! وضعية مستشكلة نكأت حيرتهم! من هي تونس؟ من أين سندخل إليها؟ اين مفاصلها ونوافذها؟ ما هي لكنتها السياسية… لا احد يدري بالتحديد، كل يلوح للعيان أننا بصدد بلاد قررت ان تعيش ورفضت أن تموت، فهي تصرف قدراتها بما يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة في محيط يعج بالموت وتعج تجاربه بالانهيار.
رحم الله الباجي الذي استثمرنا فيه عقل الدولة الإداري، دون ان ينقل لنا عقل الدولة الشمولي الوبائي القمعي، لقد قدم لتونس خبرته في التسيير التي تحتاجها، وحجب عنها بقية الخبرات التي لا تحتاجها… الوداع، سيذكرك التسامح التونسي بخير.