آخر الآباء …
علي المسعودي
اليوم عيد الجمهورية.
اليوم وفاة رئيس الجمهورية الخامس، رحمه الله،
بودي أن أنظر إلى هذين الحدثين المتزامنين من زاوية مغايرة تخلخل المسلمات.
الحياة السياسية في تونس لم تكن يوما حياة في كنف نظام جمهوري ، ولا كان الرئيس ممثلا لمؤسسة عمومية، كانت أقرب إلى المملكة الحسينية ولكن بمشروعية أكثر ذكاء وتعقيدا.
لم تفعل الحركة الوطنية التونسية في الواقع غير صنع ملك بلا تاج، ملك يصدق الجميع أنه استثناء كما هو شأن ملوك الأرض جميعا.. وفي ظل هذه الملكية لا يهم الإسم، بل الأسلوب، أسلوب الحكم.
كان بورقيبة هو الأب الروحي للدولة، للدساتير المتغيرة حسب هواه وللأمة التي بعثها من العدم… كان خليفة الله في الارض، ولكن في نسخته العلمانية الزائفة.
كان هو الرازق المتفضل بالنعم، الرحيم شديد العقاب. كان هو الثقافة والسياسة، كان هو العقل واكتفى الشعب بالنقل، وفي كثير من الأحيان بالتصفيق والرقص.
كان هو “سي السيد” ولم ينكر عليه سلطانه أحد من العائلة، ويوم رحل عن عالم السياسة أحس الجميع باليتم، الراعي في البادية والمعارض في الحاضرة !. نفس اليتم الذي أحس به سادات قريش وعوامها بعد تهديم أصنامهم في الكعبة.
إذا كنتم تعتقدون أن المجاهد الأكبر، الرئيس مدى الحياة، والذي تستغرق عكاظيات يوم مولده شهرا كاملا، رئيسا لجمهورية فسأكتب قصائد في فضائل الملكية !.
•••
جاءت الثورة، فعرت كثيرا من عورات الماضى، ولكن شعور اليتم بقي طاغيا على البعض حتى وجدوا في الباجي امتدادا للسلالة الملكية التي ظنوا أنها بادت، ولبورقيبة الذي غابوا عن جنازته، فألبسوه زينته، وعلموه منطقه ثم طالبوا ان يعود العرش الملكي لأصحابه، وذلك بعد ان جعلوا من روضة المنستير أولى الحرمين وأولى القبلتين !.
تلك هي قصة الباجي مع الرئاسة. لم يكن غير آخر الاحياء من الصحابة، وآخر الآباء في السياسة، اعتقد أن حقه في العرش أوضح من حق علي في الخلافة !.
•••
النظام الجمهوري هو أساسا نظام معاد للاوليغارشيا، ولامتيازات الطبقات والأعراق والعائلات والجهات، هو نظام عمومي، يعطي السلطة مطلقة للشعب من خلال الدستور.
ولكن العائلة الدستورية هي تماما مثل عائلة آل بوربون إثر العصر الوسيط، ترى انها لا تحتاج للديموقراطية ولا حتى للانتخاب من أجل التربع على عرش الحكم. فدم رجل الدولة يجري طبيعيا في عروقها، ومقصور عليها دون غيرها.. هذه الدماء الملكية كافية برأيها في المطالبة بقصر قرطاج كحق كاد ان يكون إلاهيا !… أولم تبعث العناية الإلاهية الباجي إلينا، كما أثبت صاحبنا منظر النداء ؟
عندما تكون القيادة شأنا خاصا، تحتكره أسرة أو سلالة أو حتى عائلة سياسية سيكون من المضحك أن نتحدث عن الجمهورية.
•••
اليوم يموت آخر الملوك الدستوريين. وسيكون من العسير على أنصار النظام الملكي المقنع العثور على ملك جديد.. النسل انقطع، ولم يبق غير الادعياء والمنتحلين، بعد أن تم تجريد الابن من ولاية العهد… اليوم فقط يمكن أن نحلم بميلاد جمهورية يتساوى فيها الجميع، من كانت دماؤه ملكية، و من كان في الجبال يرعى القطيع.
اليوم يمكن ان ننصب موكبا للعزاء، لرجل كأيها الناس توفاه الاجل، وبالتوازي سيكون للعيد طعم فريد، طعم الجمهورية كحلم يولد من جديد.