تونس ما الذي يدبره لها المخلد من نخبها إلى الأرض ؟
أبو يعرب المرزوقي
لماذا لم أكتب شيئا حول ما يجري في تونس منذ “وعكة” الرئيس رغم أني تعهدت سابقا كل أحداثها بالتحليل؟ فهل ما يجري حاليا عديم الأهمية؟ قد لا يصدق الكثير ولكن عزوفي علته أني لا أرى جديدا في ما يجري لأني توقعت كل ما يحدث.
وكنت انتظره في حالـة رئيس الدولة وفي حالة قيادة النهضة أو ما صار ينعت بالشيخين. والبقية توابع لهذين البعدين اللذين هما بدورهما تابعان لمجريات تاريخ تونس منذ ما يمسى بالاستقلال. وقد كنت خاصة متخوفا من الكارثة منذ كتابة الدستور وليس منذ بداية ما يسمى بالتوافق خاصة.
فالطريقة التي كتب بها والأسخاص الذين كلفوا به بمقتضى القرابة وليس بمقتضى الكفاءة أو العلم بالدساتير ومناسبتها لثقافة الشعب وخاصة وهم تونس قد صارت انجلترا لأن البعض عاش فيها بعض الوقت كل ذلك جعلني أشك في التدبير السياسي الذي يرد إلى تكتيك قصير النظر لعدم استناده لاستراتيجية عدى منطق دعها حتى تقع. وهي ذي قد وقعت.
ولهذه العلة أحجمت عن التعليق حتى لا يقال إنـي أبالغ في تضخيم فهمي للاحداث. ولو لم يكن لما أدعيه أثارا منشورة بالمكتوب والمرئي لما قلت عنه شيئا لعدم وجود الدليل. لكن الدليل موجود وهو ما يزال ماثلا للعيان في المقالات وفي الفيديوهات لأن “النصائح” الشفوية قد لا يعترف بها من وجهت إليه في الإبان.
فأما الرئيس فقد توقعت له نهاية أسوأ من نهاية بورقيبة. وهو ما نراه يحصل. والفرق الوحيد هو أن الوزير الأول هو الذي عزل بورقيبة بملف طبي سلبي ويبدو أن العكس هو الذي يحصل حاليا أي إن الرئيس هو الذي يعزل رئيس الحكومة بملف طبي إيجابي. لكن النتيجة أسوأ من الأولى التي كانت تعد بالانقاذ. وهذه تنذر بالغرق غرق البلاد لأن العودة إلى النظام أيا كان السابق أو ألمأمول مستحيلة بعد أن فرخت المافية الأصلية -التي حكمت قبل الثورة- إلى ما لا يتناهى من بناتها خلال غيابها وليس بسبب الثورة. دور الثورة تمثل في كسر الفترينة التي كانت تخفي عملها تماما كما حصل في الاقليم في ما يخص التطبيع مع إسرائيل: صارت المافيات جلية بعد أن كانت خفية واصلها هو مافية المافيات في حكم كل بلاد العرب أعني السلطان الخفي لإسرائيل التي تحاكيها إيران في كل شيء.
وأما النهضة فقد توقعت لسياسة التكتيك تحولها إلى سياسة المرحوم ياسر عرفات أعني التحكم بالسيطرة على ارزاق المنتسبين إلى نخبتها بحيث تعوض الزبونية النضال والنفاق الإيمان. وهي أفسد نهاية لأي حزب ذي عقيدة تدعي الانتساب إلى قيم الدين.
لكن ما لم أتوقعه رغم أنـي نبهت إلى ضرورة تجنبه هو اللجوء إلى لعبة قصيرة النظر تفاخر بانتخابات أولية تنتهي إلى “مسخرة” بإثبات أنها لم تكن انتخابات بل كانت فرزا لمن هو مع صاحب الباتيندة ومن هو ضده بتوسط من يسيطر على الارزاق وافقاد النضال قيمته كما حصل لفتح بنفس الفعل عند ياسر عرفات.
ثم -وهو الأخطر- ما انتهى إليه من كان يطمح في الرئاسة فصار راضيا بالنيابة: فهل ذلك يعبر عن خوف؟ ومم الخوف؟ فإذا خوفا فالحصانة النيابية لا تحمي شيئا. وإذا كانت اتفاقا مجانسا لما نظمت به الترويكا توزيع السلط الثلاثة فسيكون ما سيؤدي إليه أفسد من التوافق الذي حكم البلاد منذ انتخابات 14.
ولست أستطيع أن أفهم علة التخلي عن الطموح الرئاسي والرضا بالنيابة مع ما يترتب عنهما من التخلي عن دورين ضروريين لقيادة الحركة:
- فكيف للمترشح للنيابة أن يدير حملته وأن يساند الآخرين في 33 دائرة؟
- هذا في الداخل أما المهمة الثانية فهي تمثيل الحركة في الخارج وفي العلاقات الدولية.
فكيف لمن سيصبح مرشحا أن يفرغ لمساندة مرشحي حزبه داخليا وكيف لمن سيصبح نائبا أن يفرغ لمهامه الخارجية؟ كيف يمكن للحركة أن تصبح بلا رأس أو بلا رأس في الداخل والخارج أن تبقى قادرة على التفرغ لعمل الرأس. وسأكتفي بهذا دون تدخل في المطبخ الداخلي لتوازن قوى التيارات وضرورة التشبيب والديموقراطية.
وقد كتبت في ضرورة التشبيب والديموقرطية الداخلية وابتعاد من قادوا الحركة في الترويكا وفي ما بعدها والاعتماد على شباب لم تحكم عليهم تجربة الحكم بالسابقة الفشل حتى وإن لم يكون من حكمت عليهم التجربة هم علـة فشلها لأني أعلم من السنة التي كنت شاهدا علينا -لم تكن لي أدنى مسؤولية مباشرة ككل مستشار لا يسمع لما يشير به- أن علل الفشل كثيرة وجلها يعود إلى صدام بين الإسلاميين والعلمانيين وصدام نقابي ومافيوزي.
كان لا بد من وجوه جديدة لئلا يتحمل الاسلاميون نتائج ستين سنة بزعم عجزهم إذ حكموا وما حكموا ولكن شبه لهم فيصبح الخراب الموجود في كل أوجه حياة تونس والذي فضحته الثورة وكأنه حدث بسببها في حين أن جنايتها الوحيدة أنه كسرت الفترينة وبينت الحقيقة التي كان عليها تونس ذات المافيتين.
ولما تأكدت أني مثالي زيادة عن اللزوم “أكرمت لحيتيي بيدي” فغادرت وفضلت العودة إلى ما كنت عليه من موقف المحارب الفرد لكأنـي من صعاليك العرب في بلد صار مرتعا لكل مافيات العالم وخاصة الخمسة الحالية: المافية الداخلية التي هي في خدمة مافيات خارجية تقود أحزاب فرنسا وإسرائيل وعربان الثورة المضادة وإيران وما يسمى بالنخب وخاصة السياسية الذين هم دمـى هذه المافيات.
فهل معنى هذا أني انفي أن يكون في تونس من هم مخلصون للوطن ولا ينشغلون بالسياسة المباشرة التي صارت طريقا سيارة للثراء وليس للوجاهة بمعنى المجد في تاريخ الأمم؟ حاشا لله أن ادعي ذلك. فالكثير من الشباب ومن الكتاب يحاولون قدر مستطاعهم عمل شيء لأخراج البلد من صدام الحضارات الداخلي ومن سلطان المافيات. ولكن ليس بيدهم حيلة. ولم يكن لي طموح غير أن أكون واحدا منهم.
وما كنت لأنشغل خصيصا بالحزب الإسلامي لو لم أكن “عاقدا فيه النوارة” كما يقول المثل التونسي. وقد أخطأت لما تصورت أني كان يمكن أن أساعد على المشاركة في الحد من صدام الحضارات بين النخبتين المتنافيتين الإسلامية والمعادية ليس لها مباشرة بل لأساس كل حياة ديمقراطية أعني الحكم المراعي لثقافة شعبه. لكني تأكدت أن الأمر لا علاقة له بخيارات قيمية بل هو تنافس المخلدين إلى الأرض.