ديما مصطفى سكران
لم تشفع للسير تيم هانت اعتذاراته المتكررة للصحافة، ولا دفاع زوجته المستميت عنه بأنه نصير للمرأة، ولا حتى جائزة نوبل التي حصل عليها عام 2001 عن أبحاثه حول السرطان، في غفران نكتته “المتحيزة ضد المرأة”، التي افتتح بها كلمته في يونيو/حزيران عام 2015 في مؤتمر علمي في كوريا الجنوبية. ولم يُكتفَ بالتشهير به على أنه شخص ميسوجيني “كاره للنساء” فقط، بل تم أيضا تعليق عضويته في الجمعية الملكية البريطانية، وإيقافه عن العمل كباحث، وإجباره على الاستقالة كبروفيسور من كلية لندن الجامعية، بعد أن أصدرت الأخيرة بيانا تتبرأ فيه من نكتته.
الكود الأخلاقي الجديد لهذا العصر:
السير تيم هانت هو واحد من الضحايا الكثر لتهمةُ الميسوجينية والتحيز ضد المرأة، فهذا عصر المرأة بلا منازع، عصر النسوية، وحملات #Me_too، وكوتا تعيين المرأة في البرلمانات ومجالس إدارة الشركات. إن المرأة هي الكود الأخلاقي لهذا العصر، وقياسا على الموقف منها يُقاس رقي المرء أو انحطاطه، وحتى المشاهير القدماء من شكسبير إلى أينشتاين تنبش مقولاتهم المتعلقة بالمرأة، ليعاد تقييمهم أخلاقيا على أساسها.
لذا لا عجب أن يلقى تصريح شيخ الأزهر حول ضرب الزوجة في القرآن قبل أيام ردةَ الفعل العنيفة تلك، ولكن شيخ الأزهر لن يجبر على الاستقالة ولن يوقف عن العمل، فليس هو من يبيح ضرب النساء، بل إن القرآن هو المقصود بكل هذه العواصف، التي لم تهدأ منذ التصادم الجديد بين الحضارتين الإسلامية والأوربية في مطلع القرن الثامن عشر.
فحتى الأيديولوجيات والثقافات والأديان تقاس أولَّ ما تقاس من خلال موقفها من المرأة، ويُهملُ – إذا ما سقطت وفق هذا المقياس- بناؤُها الفلسفي والروحي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، مهما كان عظيما.
لقد بدأت غطرسة العملاق الأوربي تتعاظم منذ احتضار الدولة العثمانية، وبدأ يعيد صياغة مفاهيم العالم، وينصب نفسه مرجعية لكل شيء، لذا فإن أولى الأسئلة والاتهامات المتعلقة بالمرأة جاءت من هناك، من وراء البحر المتوسط، ومن تلك الحقبة التاريخية، التي كانت فيها الأمة الإسلامية تتصفح كتاب الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” بانبهار، بينما يتقاطر عن جبينها عرق الهزيمة والانكسار.
تعدد الزوجات، حصة المرأة من الميراث، شهادة المرأة، الحجاب، وأخيرا.. يا للهول، إن هناك آية في كتاب المسلمين المقدس تبيح ضرب النساء!
من يحاسب من؟!
يشعر بعض المسلمين أن بعض النصوص الدينية المتعلقة بالمرأة، تمثل لهم ورطة عويصة، لا يستطيعون الخروج منها أمام العالم المتحضر، ولكن عصر الحداثة قد ولى، وولت معه شهقة الانبهار الأولى، لذا آن للمسلمين أن يعيدوا تشغيل مسننات تفكيرهم العقلاني، ليكون الرد على كل هذه الاتهامات الموجهة للقرآن هو: من يطرح الأسئلة حقا؟ ومن يحاسب من؟ ولم علينا نحن أن نكون في امتحان “الحضارة” المهين، بينما لا تضع “الحضارة” نفسها في امتحانٍ يفضح نفاقها وزيف مثالياتها؟
ولم على السير هانت أن يُهان، وأن يُوقف عن العمل في أبحاث محاربة السرطان، التي قد تنقذ حياة ملايين النساء، بينما يموت هيو هيفنز مؤسس مجلة بلاي بوي الإباحية المهينة للمرأة عن ثروة قدرت ب 758 مليون دولار، مشيعا بعبارات التمجيد من أهم مشاهير العالم؟ ولم على الغرب أن يحاسب المسلمين على نص في كتابهم المقدس يبيح ضرب الزوجة، بينما لا يُحاسِبُ العالمُ كلُّه صناعةَ الإباحية التي بدأت من الغرب، والتي دخلت كل بيت، ونشرت أسوأ ثقافة عنف ضد المرأة عرفها التاريخ تحت مبرر المتعة الجنسية؟!
إن ضرب المرأة في الأفلام الإباحية ليس إلا خيارا واحدا فقط من بين مئات خيارات الإهانة والتعذيب التي تتقزز منها النفس السوية، والتي تزيد جرعات العنف وتُنوع أساليبه إلى حد يفوق الخيال، ليستطيع المنتَج المنافسة في هذه السوق القذرة.
وبالتوازي مع هذه السوق تنتعش تجارة الألعاب الجنسية وأسواق الدعارة والاتجار بالبشر عبر العالم، دون أن يخاف أساطين هذه التجارة و”نجماتها” من أن يوقفوا عن العمل، طالما أن ضرائب تجارتهم تدر مليارات الدولارات في ميزانية الحكومات “غير الإسلامية بالمناسبة”.
إن الثرثرة عن المثاليات أمر سهل للغاية، لكن الآية 34 من سورة النساء لم تكن هي المنطلق لهذا العنف اللامحدود تجاه المرأة في الصناعة الإباحية، بل لقد كان هذا العنف ابن فلسفة الحضارة المادية المتغطرسة، التي آن لها أن تجلس على مقعد الامتحان لتجيب عن الأسئلة المحرجة، وآن لها أن تشعر بالعار من زيف أقوال نهارها التي تمحوها مشاريع ليلها التجارية.
في أي ضوء نقرأ الآية؟
إن ارتعاد بعض المسلمين أمام التهم الموجهة لدينهم بات يدفعهم لفعل أي شيء للتبرؤ من النص القرآني، حتى لو اضطروا للغوص في قواميس اللغة بحثا عن تفسيرات تتناسب ومزاج العصر، مهما بدت مضحكة.
كلا، إن الضرب هنا هو ليس المباعدة وليس الهجر، بل هو الضرب كما يفهمه أصغر طفل عربي الآن. فكيف نوفق بين هذه الآية وبين عشرات النصوص الأخرى، التي حفظت مكانة المرأة وأعلت قيم المودة والرحمة والكرامة الإنسانية؟ وكيف لا نجدها مناقضة لروح الشريعة وسيرة النبي مع زوجاته؟ وماذا نفعل بهلع النساء من هذه الآية وشعورهن بالدونية؟
إن فزع النساء هذا مبرر طالما أن الآية تُقرأ في ضوء واقع فاسد، سِمَتُهُ تضييع حقوق الضعفاء، وطالما أنها تقرأ أيضا في ضوء تنافس محموم بين الجنسين على تحصيل مراكز الأفضلية، لا يمانعون خلاله من استخدام الآيات القرآنية لإحراز نقاط إضافية لفريقهم. لكن التحلي بقليل من الموضوعية والخروج من قيود الأنا والزمان والمكان في فهم القرآن سيزيل كل هذه المخاوف.
فالآية أتت في سياق الحديث عن الإصلاح المتدرج بين الزوجين عند نشوز الزوجة، ولم تأت في سياق الإهانة والإيذاء، بل لقد كانت الآية التي تليها مباشرة “وإن خفتم شقاق بينهما”، فهو الضرب الذي لا يمكن أن يؤدي إلى شقاق، بعيدا عن الشوارب المفتولة والعصي الثخينة ومشاهد العنف في المسلسلات، التي تتداعى إلى أذهان النساء عند ذكر هذه الآية. فكيف يكون الضرب غير مؤدٍ إلى شقاق، بل جزءا من عملية إصلاح زواج معطوب؟
بين علم النفس والفنون الإنسانية:
لا يزال أمام علم النفس الكثير من الوقت للإجابة على هذا السؤال في ضوء وجود ما يسمى بالميول المازوجية لدى قسم كبير من النساء بدرجات مختلفة، والتي تقابلها ميول سادية طبيعية مختلفة الدرجات أيضا لدى قسم كبير من الرجال.
إن الدراسات ذات الأرقام المتغيرة كلها تثبت وجود هذه الميول الطبيعية، والتي تزيد من جاذبية الرجل القوي بالنسبة للنساء، وتجعل بعض العنف أحيانا سببا لتمتين العلاقة بين الجنسين على الأصعدة النفسية والعاطفية والجنسية، وإنِ اختُلفَ تفسيرُ هذا الانجذاب باختلاف السياقات الثقافية.
هو الضرب الذي يأتي ليزيد المودة، ويفضي بالمرأة الناشز إلى فراش الزوجية الدافئ إذن، وهو العنف الذي ينسجم مع حالة طبيعية لم يتوقف علم النفس عن تناولها، ولم تتوقف الفنون الإنسانية عن التعبير عنها في سياق رومنسي أو جنسي، دون أن توجه إليها أي تهمة، وجميعها صناعة غير إسلامية مئة بالمئة، بدءا بـ”ترويض النمرة” لشكسبير، مرورا بصفعة رشدي أباظة للبنى عبد العزيز التي تنتهي بعاصفة من القبلات، ثم السينما الأمريكية القديمة والحديثة، ثم الأغاني الدارجة التي تتغنى بقوة الرجل “الحمش”، ثم الأدب الإباحي، وعلى رأسه الكتاب الأكثر مبيعا “خمسون درجة من الرمادي”، ذي المئة وخمسين مليون نسخة لمؤلفتِه إي. إل. جيمس، والذي تحول بدوره لأكثر الأفلام الأمريكية درا للأرباح، وانتهاء أخيرا بالصناعة الإباحية، التي بنت محتواها العنيف ضد المرأة، والمقدر ب 85% من إنتاجاتها، على هذه الميول الطبيعية. ولكن هذه الصناعة انتزعت هذه الميول من سياقها العاطفي الزوجي السليم، لتحصرها بالناحية الجنسية ولتصعدها لأغراض ربحية إلى حدود مخيفة تتجاوز الإنسانية، حيث يغيب هنا التوجيه الرشيد الذي تضمنته تكملة الآية “فلا تبغوا عليهن سبيلا”، والتي تلجم هذا الميل، وتبقيه في حدود الإصلاح والمودة والرحمة والسكن النفسي، ومن ثم المتعة الحميمة بين الزوجين.
القرآن لا يجاملنا
إن غرور الإنسان يدفعه لأن يجامل نفسه كثيرا، لأن يتوهم إمكانية العيش في عالم طوباوي كل ما فيه مثالي ومنسجم مع ذوق العصر، رغم أن ما يستحسنه العقل في عصر قد يستشنعه في آخر.
وإن استعلاء النخب الثقافية على التشريع الإلهي الحق، جعل أذواق هذه النخب هي المعيار الأخلاقي للمجتمع، ولكن القرآن لم ينزل ليرضي نخب غارقة في المثالية والغرور، بل نزل لإنسان كل زمان ومكان.
كما أن القرآن لا يجامل الإنسان، بل يضعه أمام حقيقته بكل وضوح، تاركا له المجال للتعامل مع هذه الحقيقة وفق قيم الإسلام العامة، الأمر الذي يتولاه فقهاء الأمة ومختصوها، فإقرارُ هذا الأمر في حالات معينة لا يعني إطلاقه، وعلى المشرعين أن يراعوا تفشي الظلم والجهل بالدين، والذي يسهُل معهما إساءة فهم النصوص واستغلالها.
الصورة من الأعلى تبدو مختلفة:
إن على النساء بالذات أن يتجنبن محاكمة نصوص القرآن من منطلق ذاتي، ومن خلال خبرتهن الضيقة، فالقرآن لم ينزل لفرد واحد، ولا حتى لمجتمع واحد فقط، بل نزل لإنسان كل زمان ومكان.
وما يستنكره البعض بصوت مرتفع، قد يقره البعض الآخر في سره بصمت، دون أن يقدر على الاعتراف بذلك، في مجتمع يعتبر هذا النوع من الانجذاب أمرا مرضيّا مخالفا لصورة الإنسان المثالية المتخيلة.
كما أن نقاش ضرب الزوجة ليس محصورا على المجتمع الإسلامي، بل حتى في المجتمعات الغربية يوجد من يستدعي نصوصا من الإنجيل لتبرير هذا الأمر، كما يفعل أتباع الحركة المسماة CDD “الانضباط المنزلي المسيحي” نساءً ورجالاً، لذا على المسلمين أن ينظروا للأمر من الأعلى كي تتضح لهم الصورة، وعليهم أن يتوقفوا عن قراءة نصوص القرآن في جو من المنافسة بين الجنسين، فضرب المرأة لم يُبَح لأبيها وهي في عمر التربية، بل سُمح بممارسته بين الزوجين فقط عند التأكد من إفضائه للإصلاح النفسي والعاطفي والحميمي، وليس بسبب أفضلية أحد الجنسين على الآخر، بل بسبب تعقيد العلاقة بينهما، والتي لا يعرف كنهها إلا هو سبحانه خالق الذكر والأنثى.
أخيرا، سيكون سهلا جدا أن تعترف نيكول سابا لعادل إمام في أحد أفلامهما بازدياد إعجابها به بعد أن صفعها على السرير، لكن نكتة السير تيم هانت:
“إليكم ثلاثة أمور تحدث عندما تكون النساء في المختبرات، إننا نقع في حبهن، وهن يقعن في حبنا، وعندما ننتقدهن فإنهن يبكين!”.
هذه النكتة “الخطيرة” لم يغفرها العالم المتحضر للسير تيم هانت أبدا، فهل يتوقع المسلمون أن يغفر لهم “واضربوهن”؟ وهل ما زالوا أصلا ينتظرون غفران هذا العالم المتحضر ورضاه؟