أبو يعرب المرزوقي
لما أرجعت كل الرموز إلى رمزين اثنين هما أكثر الرموز كلية -رمز التبادل أو العملة ورمز التواصل أو الكلمة وسميت الأول “رمز الفعل” والثاني “فعل الرمز”- كان المنطلق مضاعفا:
1. المنطلق الأول تاريخي وهو اكتشاف ابن خلدون ضرورة تحرير رمز التبادل من السلطة التنفيذية وهو ما نسميه اليوم استقلال البنك المركزي. وقياسا عليه اقترحت إنشاء مؤسسة جنيسة للبنك المركزي المستقل لحماية العملة من تلاعب السلطة التنفيذية بها لحماية التبادل العادل تكون وظيفتها حماية الكلمة من تلاعب سلطة أخطر من السلطة التنفيذية هي فوضى استعمال اللغة من تلاعب أنصاف المثقفين لحماية التواصل الصادق بين الناس في جماعة من الأحرار.
والمشكل في هذا المقترح بخلاف الأول هو أن الكثير قد يعتبر ذلك أمرا يحد من حرية استعمال الكلمة في التواصل ولا يرون أن الأول قد يعتبر أمرا يحد من حرية استعمال العملة في التبادل. وأكثر من ذلك فالقابلون للأولى يخيفهم تزييف العملة لكنهم لا ينتبهون إلى تزييف الكلمة لعدم بداهة الأثر ولا مباشرته.
فـحتى الإنسان العادي يشعر بالفرق بين أثر العملة السليمة وأثر العملة المزيفة على زاده المادي. لكن حتى أرفع المتعلمين فإنه قد يغفل عن الفرق بين أثر الكلمة السليمة والكملة المزيفة لأن الجميع تقريبا يعتبرالكلام ببلاش ولا أثر له بخلاف الأموال فهي ليست ببلاش واثرها شديد الوقع على الجيب.
فإذا أضفنا إلى ذلك قيمتي حرية التعبير وحرية التفكير صار الكلام على ما يشبه مؤسسة البنك المركزي للكلمة مثل البنك المركزي للعملة “فكرة شنعاء” لأنها تبدو من أدوات قمع حرية الفكر وحرية التعبير. وهي في الظاهر فكرة شنعاء ومن يفهم القصد يمكن أن يراجع فكره لأن حرية البنك المركزي للعملة ليست شنعاء بل هي التي تضمن التبادل العادل وحرية البنك المركزي للكلمة ليست شنعاء لأنها هي التي تضمن التواصل الصادق.
فالبلدان التي انتظمت شؤونها حتى وإن لم تحدث مثل هذه المؤسسة بهذا الاسم فلها مؤسستان تؤديان هذه الوظيفة. وصحيح أن لنا شبائه من هذين المؤسستين: مؤسسات البحث العلمي التي تستعمل ما يؤدي وظائف حماية الكلمة سواء كانت طبيعية (في الآداب مثلا) أو اصطناعية (في العلوم) والمؤسسات المجمعية التي تراقب وتسجل الأحداثات في مجال اللسان بما يشبه السجل المدني لولادة الكلمات ووفياتها في لسان الجماعة.
ولعل آخر الأمثلة ما حدث من حوار حول الطالبة التي حصلت على 20 من 20 في الفلسفة. صحيح أن المعجزات ممكنة في كل عصر أعني ظهور عباقرة موهوبين ولا أحد يجادل في ذلك. وقد رأيت من لم يجادل فيه بل جادل في أمرين هما اتفاق المصححين وبارام التصحيح. فالاول من المعجزات والثاني لم يظهر. ثم جاء من ضربوا البندير واعتبروا أنفسهم حكاما لا يشق لهم غبار في التقييم الفلسفي وكل من يخالفهم من ذوي الفكر المتكلس. وفي الحقيقة فإن من له تكوين ولو متوسط في الفلسفة إذا قرأ المقال يمكن أن يرى كل العيوب في المصححين وليس في الطالبة. فالطالبة يكفيها الاجتهاد. لكن المصحح يبين طبيعة ما يعلم عندما يحدد البارام. والبارام في هذه الحالات يتعلق بالتعامل مع المفهومات أولا ومع النسق الاستدلالي ثانيا يليه السلامة اللغوية وخاصة الترتيب الواصل بين الإشكالية وما تتعلق به من الظاهرات لأن الفكر هو بالاساس رؤية واعية بحدودها ومتحررة من “سذاجة” المطابقة والاحاطة.
فيكون لكلامي على هذه المؤسسة المناظرة للبنك المركزي والتي وظيفتها رعاية الكلمة مثل البنك المركزي الذي يرعى العملة دلالتان: إما تكوين هذه المؤسسة أو جعل المؤسستين اللتين تقومان بوظائفها تقومان بهما. ما يعني أن مؤسسات البحث العلمي والمجامع لا تؤدي هذه الوظائف عندنا إما لأنها لا سلطان فعلي لها أو لأنها هي بدورها تفسدها بسبب فساد المشرفين عليها ككل مؤسساتنا.
ولا أعني بالسلطان الفعلي التسلط. فالبنك المركزي لا يتسلط بل يعدِّل. فهل الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي لهما سلطة تعديل يحمي لغة الجماعة شرط تواصلها السليم كما يفعل البنك المركزي للعملة الذي يعدِّل أستعمال أداة تبادلها ؟ من يدعي ذلك يعلم أنه كاذب وأنه لا يمكن أن يصدقه أحد.
2. أنتقل الآن إلى المنطلق الثاني بعد الكلام في الأول الذي بدأ بداع نظري خلال قراءة ابن خلدون الذي أبدع نظرية استقلال البنك المركزي عن السلطة التنفيذية أو السلطنة وضرورة اعتباره تابعا لسلطة رمزية هي الخلافة. وهو في الحقيقة عمم نظرية الحسبة التي تعنى بالموازين والمكاييل ومراقبة الأسواق لمنع جريمة التطفيف.
فما المنطق الثاني الأبعد غورا؟ ففي محاولة فهم البنية العميقة لنوعي النظام السياسي الحدين -أي اللذين يوجد بينهما الكثير من الأنواع التي تتحدد بتغالب النسب بينهما- اكتشفت أن الثيوقراطي (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطي (الحكم باسم الإنسان) نظامان كاذبان أو تنطر لنظام أعمق منهما هو نفس البنية العميقة المشتركة بينهما: هي نظام الأبيسيوقراطيا أو الحكم باسم العجل.
والأبيسيوقراطيا أو الحكم باسم العجل هي الحكم بتحريف أداة التبادل (العملة) وأداة التواصل (الكلمة). ورمزها في القصة القرآنية المعلومة هي الذهب المسروق (معدن العجل) والكلام الزائف (خوار العجل). فننتقل من أداتي التبادل والتواصل إلى العكس في الحالتين أي أداتي السلطان على المتبادلين بالعملة المسروقة أو الذهب وعلى المتواصلين بالكلمة المزيفة أو الخوار.
وذانك هما نوعا الربا: ربا الأموال وهو سلطان أصحاب الأموال على المتبادلين (تحريف النظام الاقتصادي) وربا الأقوال وهو سلطان اصحاب الأقوال على المتواصلين (تحريف النظام الثقافي). وهذا المستوى من التحليل طبعا لا نجد له أصلا في فكر ابن خلدون لكنه يتبع الفكرة الأولى التي هي نواته.
فالنواة هي جواب ابن خلدون عن سؤال : كيف نحرر أداة التبادل من تحولها إلى أداة سلطان على المتبادلين. وقياسا عليه حاولت أن أجيب عن سؤال : كيف نحرر أداة التواصل من تحولها إلى أداة سلطان على المتواصلين. لكن كان ينبغي أن أجيب عن سؤال متقدم على سؤال ابن خلدون رغم كونه موجودا في جوابه لما حدد السلطة التي تحقق التحر من التحريفين: ما السلطة التي تحول الأداتين إلى أداة سلطان فتحرفهما؟
وكان الجواب: نظرية أنظمة الحكم في الدولة علما وأني بينت أن الدولة ذات بنية مضاعفة مستقلة تماما عن نظام الحكم طبيعة وأسلوبا. فلها بنية آلية أو مكانيكية هي وظائفها وهي واحدة في كل الدول وقد أحصيتها فوجدتها عشرا: خمسة للحماية وخمسة للرعاية:
- فالحماية داخلية وهي القضاء والأمن وخارجية وهي الدبلوماسية والدفاع. ولهذه الوظائف الحمائية الأربعة جهاز عصبي يجعل هذه الحمايات تعمل على علم وهي الاستعلام والإعلام السياسيين. ولا تخلو دولة من هذه الآلية من مصر الفرعونية إلى أمريكا الاستعمارية.
- والرعاية تكوينية وهي التربية النظامية والتربية في تقسيم العمل في المجتمع والرعاية التموينية وهي الانتاج الرمزي أو الثقافة والإنتاج المادي أو الاقتصاد . ولهذه الوظائف الرعائية الأربعة جهاز عصبي يجعل هذه الرعايات تعمل على علم وهي الاستعلام والإعلام العلميين (البحث العلمي) الذي يبدع الأشياء والمناهج وهذا أيضا موجود في كل دولة من الفرعونية إلى الأمريكية.
لكن هذا الجهاز آلة خالية ممن يملأ خاناته ويفعل بها وهم القيمون عليها من أبناء الشعب الذي تكون دولته قد أدركت هذه الوظائف وأعدت من يقوم بها تحت رقابة حكومة تشرع وتنفذ القوانين المنظمة لهذه الوظائف. تلك هي الدولة وغير النظام الذي يحدد كيفية ملء هذه الوظائف بالقيمين عليها ويحدد دورهم وسلطانهم.
والقرآن رفض النظام الثيوقراطي والنظام الانثروقراطي (أو الديموقراطي) واقترح نظاما يعسر تحديد طبيعته وأسلوبه وهو “الجمهورية (أمرهم=طبيعة الحكم) الشورية (شورى بينهم=أسلوب الحكم)” في الآية 38 من الشورى. وقد شرحت ذلك شرحا مستفيضا.
فكان علي أن أفهم علة رفض القرآن للنظامين الثيوقراطي (تبنته الشيعة) والانثروبوقراطي (تبنته العلمانية) لأحدد القصد بالنظام الجمهوري (أمرهم) التشاوري (شورى بينهم) في علاقة بحدين هما المشكل أولهما يصله برمز وظيفة الكلمة (استجابوا لربهم) والثاني برمز وظيفة العملة (الانفاق من الرزق).
وكان الجواب مستمدا من القرآن الكريم: قصة دين العجل. فلا شيء فيها كان بالصدفة. ففي اللحظة التي ذهب فيها موسى لأخذ القبس عاد الشعب الذي حرره من سلطان الاستبداد السياسي إلى دين مستعبديه وصنع عجلا لعبادته بالذهب الذي استعاره وسرقه وجعله ذا خوار .فنجد الذهب والخوار اللذين صارا رمز السلطان المطلق:دين العجل.
والبنية العميقة التي يشترك فيها النظام الثيوقراطي (الحكم باسم الله: رمزه في الإقليم إيران ومن ورائها روسيا) والنظام الأنثروبوقراطي (الحكم باسم الإنسان: رمزه في الإقليم إسرائيل ومن ورائيها أمريكا) هي بنية الأبيسيوقراطيا(الحكم باسم العجل). وإيران تعتمد على خرافة دينية الأسرة المختارة وإسرائيل على خرافة الشعب المختار.
لكن الخرافة الدينية -الأسرة المختارة والشعب المختار- مجرد غطاء للتنكر والتقية يخفي بعدي دين العجل: الذهب والخوار. فكلا الرمزين في الاقليم لا يحكمهم إلا ربا الأموال وربا الأقوال. وطبعا فهذان النوعان من الربا لهما تجسم فعلي في السيطرة على الإنسان من حيث هوحيوان: بالغذاء وبالجنس.
ولا بد للغذاء والجنس المشروطين بالذهب والخوار من بهارات تساعد على دورهما من توابع فن المائدة وفن السرير أعني الملاهي والمخدرات. وقد خصصت لهذين الأمرين بحوثا مطولة. وهما أيضا من اختصاص الرمزين في الإقليم. وهذه الملاهي والمخدرات لا بد أن تكون ذات صلة بالماهنا والماهناك أي بالدنيا والآخرة. تلكما هما الصفوية والصهيونية.
لكن الأمر لا يتوقف على الصفوية والصهيونية لأنهما هما بدورهما أداتان أو دميتان بيد من بيدهم سلطان العملة وسلطان الكلمة في العالم. وهؤلاء هم سر العولمة التي تحكم العالم. ولذلك فمن يقرآ الآن القرآن يفهم لماذا هو علاج لأدواء الإنسانية: فظاهرة العولمة الحالية هي دين العجل الكوني.
ولذلك فليس بالصدفة أن يصبح الإسلام عدوا لاصحاب السلطان في نظام العالم السابق ويخشى أن يفقده ولاصحاب السلطان الموعود في النظام القادم ويخشى ألا يصل إليه. وكلاهما يعتبر السيطرة على دار الإسلام والحرب عليه شرطا في تحقيق ما يحلم به: أمريكا (وهي الشكل الثيوقراطي من دين العجل : تبقى مسيحية العمق ) والصين (وهي الشكل الانثروبوقراطي من دين العجل : تبىقى بوذية في العمق). أما روسيا فلم يعد لها دور يذكر وهي نسخة منهما تردت لما فقدت إمبراطورية السوفيات.
وطبعا لا أطمع في وجود من يسمع لمثل هذا التحليل: فالفكر عند العرب خاصة وعند المسلمين عامة صار كليلا أصابه التبلد الذي يدعيه خاصة حداثيو النخب فيهم. أما تقليديوهم فلا فائدة من الكلام عليهم لأنهم يعيشون خارج التاريخ ولا قدرة لهم على فهم معاني القرآن لتحليل مآلات تاريخ الإنسان.
يوم يفهموا أن النظر إذا لم يكن عمارة رمزية وظيفتها صنع مرآة عقلية تعكس ما يفترض عقلا في رؤية الوجود من فواعل قابلة للفهم بالتناظر مع العمارة الرمزية فإن الكلام معهم لا يجدي نفعا. فمن يخرف منهم على النص والواقع أي على سخافتين ماركسيتين بدائيتين عند أدباء فاشلين يدعون التفلسف.
ويمكن أن تخيل فارابي جديدا يقول عن ماركس ما قال القديم عن أرسطو اكتمل العلم ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم. وبنى كل نقده للأديان على هذه الفكرة كما يفعلون الآن إذ هو كان يقول الملل-ويقصد رؤى الوجود الدينية-ما بنيى على العلم النهائي أي الفلسفة الأرسطية وما يستمد من خرافات من جنس التي وضعها في آراء أهل المدينة الفاضلة.
وفعلا فقد حدث لحداثيينا المزعومين في العصر الحالي ما حدث لفلاسفتنا المزعومين في العصر الوسيط: هؤلاء ظنوا فلسفة أفلاطون وأرسطو عاكسة للواقع والحقيقة في ذاتهما فصاروا يعيرون بها القرآن. وأولئك يظنون أن فلسفة هيجل وماركس عاكسة للواقع والحقيقة في ذاتهما ففعلوا مثلهم. النتيجة لا وجود لفكر بل هو خوار إيديولوجي فالفكر أقصى ما يستطيعه هو إبداع نماذج لصوغ رؤى اجتهادية تعترف بأن “الواقع” أمر مثالي لا أحد يعلمه لأنه لا يوجد من يمكن أن يكون ذا علم محيط. هو تقديرات ذهنية تحتكم إلى الممكن لها من تجربة تدرك ظاهرات في حدود ما تقدر على إدراكه -وأدوات الإدراك متطورة بتطور العلوم- فتحاول افتراض نظام يمكن من التعامل معها.