محمد كشكار
مواطن العالَم
لكنه تصوّرٌ سائدٌ في مجتمعِنا، متجذِّرٌ عند المثقفينَ منّا وغير المثقفينَ، وعصيٌّ عن الدحضِ والتكذيبِ!
ما هو هذ التصوّر غير العلمي؟: المسئول السياسي (وزير، برلماني، نقابي، رئيس حزب، رئيس بلدية، عضو مجلس بلدي، إلخ.) يجب أن يكون من حَمَلَةِ قفة من الشهائد العلمية (دكتور، طبيب، مهندس، أستاذ جامعي، إلخ.).
ما هو هذ التصوّر المغاير الذي أتبنّاه أنا؟ (أعي أنني أحلم ولا داعي لتذكيري بذلك): ما يجب أن يتوفر في المسئول السياسي هو “الصدق في القول والإخلاص في العمل” قبل الكفاءة والشهائد، ولو حدثت معجزة في زمن العلم فمرحبًا بها، أعني بها مسئول سياسي عالِم أمين وصادق. أوافق شاعرنا العظيم منوّر صمادح فيما قاله وأبصمُ عليه بالعشرة: “شيئان في بلدي قد خيبا أملي *** الصدق في القول والإخلاص في العمل”.
1. التكذيب العملي لهذا التصوّر الخاطئ والسائد في مجتمعِنا:
أذكركم بأمثلة من التاريخ القديم والحديث:
- أبدأ بخير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم، حسب السيرة، لقد كان نبيًّا أميًّا، أي لا يقرأ ولا يكتب (المؤرخ هشام جعيط ينفي ذلك)، وكان يُلقَّب بـ”الصادق الأمين” (الصفتان الوحيدتان التي أشترطهما في المسئول السياسي العصري، ولا يهمني كثيرًا إذا كان إسلاميًّا أو يساريًّا، “أما التجمعيين فلا وألف لا،..” عملاً بالحكمة اليهودية: “إن لدغنا مرة فتبًّا له وإن لدغنا مرتين فتبًّا لنا”.. “الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها” و”اطلب العلمَ ولو في الصين” (حديث شريف).
- عمر المختار، بطل المقاومة الليبية وشهيدها ضد الطليان كان “مِدِّبْ” صغار.
- فرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 (UGTT) لم يتجاوز التعليم الابتدائي.
وأخرى من التاريخ المعاصر:
- ليش فاليزا، مؤسس نقابة تضامن ومحطم الشيوعية في بولونيا ورئيس دولتها (1990-1995) كان عاملاً مختصًّا في الخِراطة.
- ماو، مؤسس الجمهورية الشعبية وباعث الشيوعية في الصين وقائدها الأوحد (1949-1976) كان مدرّس ترشيحي.
- وزير تربية في عهد جيسكار كان دون مستوى الباكلوريا.
- جل وزراء بن علي كانوا دكاترة وأساتذة جامعيين، لكنهم كانوا جميعًا للدكتاتورية منبطحين وللشعب قامعين.
2. التكذيب النظري لهذا التصوّر الخاطئ والسائد في مجتمعِنا:
مِن كثرة ما خيّب ظني أصحاب الكفاءات والشهائد من المسئولين السياسيين في عهد بن علي، أصبحتُ أفضّل المسئول السياسي الصادق، حتى ولو كان مستوى إعدادي، على المسئول السياسي غير الصادق، حتى ولو كان دكتورًا في اختصاصه. وذلك للأسباب التالية:
- الجِدّ والصدق والأمانة والشجاعة والحس السليم (Le bon sens)، ملَكات مقسمة بين خلق الله بعدلٍ. والمفارقة الغريبة أن الفرد التونسي، كلما علت شهائده وزادت ثقافته، كلما هَزُلَ جِدّه ونقص صدقه وخفّت أمانته وقلّت شجاعته وذهب حسه السليم (ملاحظة شخصية غير قابلة للتعميم).
- يبدو لي أن المسئول السياسي يحتاج في مهمته لهذه الملكات الخمس مجمّعةً أكثر ألف مرة من احتياجه إلى دكتورا في الديداكتيك أو الاقتصاد أو الطب. الكفاءات والشهائد مطلوبة لدى مساعدي الوزير القارين في وزاراتهم أما الوزير، وفي كل الدول دون استثناء، قد ينتقل من وزارة إلى وزارة، فهل يمكن أن أن يجمع بين اختصاصات كل الوزارات، الوزير يقوم بدور المنسق بين المختصين والمنفذ لسياسات الدولة، وليس منفذًا لاختصاص علمي يتطلب كفاءة علمية.
- دساتير العالَم أجمع لا تشترط في المرشح لأعلى منصب سياسي في الدولة، الرئاسة، أيَّ شهادة جامعية وأيَّ كفاءة علمية، فما بالك بما هو دون ذلك.
3. التكذيب المحلي لهذا التصوّر الخاطئ والسائد في مجتمعِنا (بلدية حمام الشط نموذجًا):
أكتفي بعرض ثلاثة أمثلة من الواقع الذي أعيشه يوميًّا وأعاينه في طريقي ذَهَاباً وإياباً، صباحًا إلى مقهى الشيحي “التعيسة التي لم تعد تعيسة”، ومساءً إلى مقهى البلميرا (تدمر):
- مقاولٌ يقوم بأشغال لصالح البلدية في شارع البيئة (الموازي لطريق سوسة)، أزال طبقة الأسفلت (الزفت) وكشف عن الطبقة السفلى فانتشر الغبار وعمّ المنازل المجاورة والتي وراءها أين يقع منزلي في الصف الثالث من جهة الجبل. الحل بسيط وواضح جدًّا ويتمثل في رش الطريق بالماء صباحًا ومساءً. لم يفعلها المقاول حتى تاريخ كتابة هذه السطور ولم تراقبه البلدية. رشُّ الطريق بالماء، هذا الإجراء الابتدائي (élémentaire)، هل يتطلب شهائد أو كفاءات؟
- شارع البيئة هو وجه حمام الشط والإنسان النظيف يغسل وجهه على الأقل مرة كل صباح. شارع البيئة هذا، كل 200م يعترضك فيه كَومٌ من الزبالة، داخل الحاويات وخارج الحاويات، المفروض يُسمونه “شارع الزبالة” وليس شارع البيئة. جَمْعُ الزبالة صباحًا ومساءً، هذا الإجراء الابتدائي، هل يتطلب شهائد أو كفاءات؟
- أمام بيتي، نهج باردو، توجد حفرة صغيرة في الطريق عمرها من عمر الثورة. ترميمُها، هذا الإجراء الابتدائي، هل يتطلب شهائد أو كفاءات؟