حليم الجريري
قبل كل شيء، لماذا أعتبر رحيل أبو عوف نكسة كبيرة من نكسات مصر المتواترة؟ لأنه آثر طريق الأخيار، وفي عتمة الظلم والظلمات لهَجَ بالحق وجرى لسانه بما فيه مرضاة لذاته وضميره وخاصّة جمهوره -باستثناء أولئك الذين انتكست فطرتهم فاتهموه بالإخوانجي-..
في دولة قال عنها كشك “الظلم عشرة أجزاء، تسعة منها في مصر، والجزء العاشر يجوب العالم نهارا ثمّ يبيت ليلته في مصر”، في دولة حَمْلُ لواء الحق فيها كحمل قطعة مخدرات قال عزت أبو عوف كلمته الحق في انقلاب السيسي على الديمقراطية، وأدان هذا الإنقلاب واستشرف الدماء التي ستنجر عنه وعوقب لأجل ذلك وهُرسل وكانت خاتمته لتكون أنكأ لولا مكانته الرمزية والفنية في أرض المعز، ولولا جمهوره العريض واسمه الكبير..
موت أبو عوف فصل بين خطّي زمن في اعتباري وكان لحظة مفاصلة حادّة، لأنه يمثل آخر جيل مبدع في مصر وأفلامه شاهدة عليه، والدور الذي أسرني به شخصيا، هو ذاك الذي أداه في فلم 45 يوم، والذي تقمّص فيه شخصية الأب القاسي على ابنه والذي لا تلين له قناة (وكان صاحب دور الإبن حينها الرائع أحمد الفيشاوي ابن الممثل الكبير فاروق الفيشاوي)، حيث استطاع جعل كل من يتابع هذا الفلم يؤمن بأنه معقد من ابنه لأنه يشك اصلا في نسبته البيولوجية اليه، ليصدمنا في النهاية بكلمات مزلزلة شبيهة برجفات الحشر، عندما قال له في آخر مشهد بينهما: “صدقني يا إبني أنا مش حعشلك، وحييڤي اليوم اللي تقول فيه الراجل ده كان عايز مني إيه فلي عملو معايا طول حياتو، بس اللي أنا عايزك تبقى متأكّد منو إنو ماحدش حبّك ولا حايحبك قدي، كل الحكاية إني كنت عاوزك تفهم الدنيا صحّ.. بس”..
لا يمكنني نسيان هذا المشهد الذي قلب به عزت ابو عوف أذهان كل متابعي الفلم وجعلهم يُصدمون في قدرة هذا الرجل -الذي يتقمصه- على الإنقلاب من رجل يكره ابنه بأدائه الدرامي الموغل في الروعة إلى رجل تبيّن أنه يحب ابنه كما لم يحبه أحد غيره..
هذا المشهد بالذات -وهو الذي ينضاف الى عدّة مشاهد سبقته- جعلني أشاهد الفلم -والله دون مبالغة- أكثر من خمس عشرة مرّة، ومع كل مشاهدة أزداد يقينا بأن عزت أبو عوف فاق الإبداع بدرجات لأنه -ولولاه- لما كان لهذا الفلم كل ذلك الصدى سنة انتاجه في 2007.. ولولا التبلد الذهني الذي أعانيه منذ مدّة لكنت حدثتكم عن أدواره الأخرى التي جعلتني أؤمن بقيمة أي فلم قبل مشاهدته مادام الذي يتقمّص دور البطولة فيه هو عزّت أبو عوف..
رحمه الله ورزقه عليين، ذلك أنه قاوم جوارحه ولم يجرفه اليمّ كما جرف الذين هم من جيله من الفنانين الذين تعلقوا بحبائل الشيطان وقاموا للمأثمة في مصر وجعلهم إبليس ظهراء للمجرم السيسي، رحمه الله ورحم جيل المبدعين الكبار من بعده.