هل كانت محاولة اغتيال إجرامية ؟

نور الدين العلوي

لم تكن تستهدف شخص الرئيس؛ بقدر ما تستهدف الثورة والمسار السياسي السلمي الذي أنتجته وتتقدم به نحو مستقبل أفضل.. تتجمع الآن لدى التونسيين دلائل كثيرة على أن التدهور الفجائي والحاد في صحة الرئيس الباجي خلال الأسبوع الأخير من شهر حزيران/ يونيو 2019 كانت محاولة لتصفية الرئيس.
الذي يرجح سيناريو الاغتيال؛ الفرح الغامر والاستبشار الذي ظهر في قنوات عربية معادية للثورة التونسية، والعمليات الإرهابية العجولة التي أعقبت خبر موت الرئيس، والذي صدر للصدفة من تلك القنوات.
نحاول هنا أن نبحث عن جدوى عملية اغتيال رئيس سيغادر قانونا بعد ثلاثة أشهر، ولم يصدر عنه رسميا ما يفيد بأنه سيعيد ترشيح نفسه، فضلا عن تقدمه في السن.
إرباك الانتخابات القادمة
موت الرئيس قبل موعد الانتخابات وفي غياب المحكمة الدستورية؛ يعني خلق وضع مخالف لدستور البلاد. ففي غياب المحكمة لا أحد يقرر قيام الوضع الاستثنائي الذي يخول لرئيس البرلمان قيادة مرحلة انتقالية بشهرين، لحين تنظيم الانتخابات السابقة لأوانها وسد الفراغ في المنصب.
يوم إشاعة موت الرئيس طرح السؤال: من عطل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية؟ واستعاد العقلاء مشاهد إفشال انتخابها داخل البرلمان.. حزب الرئيس (أو غالبية كبيرة منه) هو الذي فعل ذلك، كأنه كان يمهد لمرحلة تصفية دون محكمة. الفعلان من جنس واحد ولهما هدف واحد، إذ هما حلقتان في سلسلة تخريب المسار السياسي الديمقراطي.
تذكر التونسيون يوم الإشاعة أن الرئيس الباجي رفض الدخول في حرب أهلية مع حزب النهضة، بل أشركه معه في إدارة المرحلة عوض تصفيته، حينها انقسم حزبه وهرب مدير حملته بنصف النواب، وهم نفس النواب الذين عارضوا المحكمة الدستورية.. في تونس يعرفون باسم جماعة دحلان بن زايد.. لقد كان هؤلاء أكثر من روج لموت الرئيس.
لكن موت الرئيس لم يكن كافيا، لذلك خُطط للمزيد من الإرباك.
الحقن الإرهابية
الطرفة التونسية الشعبية أن التونسي إذا سمع عن تنفيذ عملية إرهابية في مكان ما من العالم؛ طرح السؤال بسخرية عالية: هل هناك انتخابات؟ وهذه المزحة الثقيلة اقتنع بها التونسي نتيجة التزامن المتكرر للعمليات الإرهابية في تونس مع المواعيد الانتخابية، وذلك منذ 2011. فكلما اقترب موعد انتخابي عاد الخاسرون من الانتخابات إلى استعمال الإرهاب لإرباك الشارع، وخلق حالة خوف تدفع الناخبين إما إلى الغياب أو إلى التصويت لصالح الأمن الذي يقدم النظام القديم نفسه كضامن له (مع تلك الجملة التي صارت نكتة أخرى سخيفة: يا حسرة على زمن بن علي).
تزامنا مع إشاعة موت الرئيس، ضرب الإرهاب تونس في عمليتين تظهر عليهما العجلة وسوء التنظيم (الإعلام المعادي للثورة روج لعملية أخرى في مدينة سوسة السياحية، ولكن تبين أنها كذبة أطلقت لمضاعفة حالة الفزع التي لم تحدث).
الإرهاب استهدف الأمنيين في موقعين، مما طرح سؤالا مهما: لماذا الأمنيين بالذات؟ ولماذا لم تكن العمليتان من القوة بحيث تحدث ضررا بشريا كبيرا ومربكا بالفعل؟ لم يكن المطلوب في ما فهمنا قتل البشر بل تخويفهم: وتخويف جهة محددة بالذات أو شحنها بالحقد والتوتر لدفعها إلى رد فعل انفعالي؛ يظهر موجهه والمستفيد منه في مرحلة لاحقة.
هذه الجهة هي جهة أمنية بدأت تفصل بين عملها الأمني وتوظيفه سياسيا لصالح جهات دون أخرى. فبعد سنوات من الثورة صار بالإمكان الكلام عن أمن جمهوري في تونس، وليس أمنا يستخدم سياسيا ضمن سياسات الاستئصال التي درب عليها بن علي أجهزته. تتقلص تأثيرات بن علي على وزارة الداخلية ويمحى أثره، وهذا مكسب للثورة وخسارة موجعة لمن خسر قوته بخسارة بن علي، وهؤلاء هم موظفو الإرهاب ومخوفو التونسيين، مواطنين وأمنيين.
التونسيون يعرفونهم فردا فردا ويسمونهم بأسمائهم، ويعرفون مواقعهم في الأمن وفي الإعلام، وحول الرئيس، ويتهمونهم صراحة بمحاولة قتله. ما جرى خلال الأيام الماضية هو مزيد مراكمة الحجج والأدلة على هذا التيار التخريبي الذي يعمل ضد الثورة منذ يومها الأول، والذي يجد دعما ماليا وإعلاميا من الجهة التي أطلقت زغاريد عالية بموت الرئيس.
الضربة لم تقصم ظهر التجربة الديمقراطية بل زادتها قوة
التونسيون في الغالب يعارضون الرئيس الباجي وحكوماته المتتالية، ويتهمونه بالفشل، ويودون التصويت ضده، وينتظرون مرشحا جديرا بأصواتهم يُخرجهم من الأزمة الاقتصادية التي تردوا فيها بسبب سياسات الرئيس الباجي وحكوماته، ولكن كل هؤلاء المعارضين السياسيين رفضوا قتل الرئيس، وظهرت حملة تضامن كبيرة جدا معه، لا كحالة إنسانية تستحق الشفقة، بل كحالة سياسية منتخبة من قبلهم (ولو بـ52 في المئة وليس بنسبة 99 المعروفة). وأكبر المدافعين عن الرئيس والداعين له كانوا من الجهات التي لم تصوت له في الانتخابات، بل من ألد خصومه السياسيين.
الآن والرئيس يتعافى، صارت هناك قناعة بأنه لا يمكن إحداث تغيير سياسي في تونس بالإرهاب أو بالاغتيال، بل فقط عبر الصندوق الانتخابي. لقد استقر الصندوق في أذهان الناس، ولم تبق إلا قلة قليلة هي التي حاولت قتل الرئيس، ووظفت الإرهاب لقطع الطريق على الصندوق الانتخابي.
حالة التضامن الكبيرة مع الرئيس كشفت التوجه السياسي الغالب للتونسيين: لا مجال للقفز إلى السلطة بدبابة، ولا كأس سم في تونس.. إن كنت تريد الحكم فاعرض نفسك على الجمهور، وهو الذي يقرر لك أو عليك ضمن تنافس قانوني تحت سقف الدستور.
محاولة قتل الرئيس رسخت الأمر أكثر وخرج أعداء الصندوق مندحرين، وأرسل شباب فيسبوك رسائله إلى جماعة دحلان بن زايد.. لقد فشلتم في تخويف التونسيين، فليلة بات الرئيس ميتا (في قناة العربية وقنوات السيسي) باتت المقاهي تعج بالساهرين، وقد انطلق موسم أعراس الصيف، حيث تواجه وزارة السياحة الآن معضلة في تلبية الحجوزات التي فاقت القدرة على الاستقبال.
لا شيء أوحى أو يوحي بأن التونسيين مرتبكون أمام مسرحيات الإرهاب والإشاعات، ولا شك في أن من يراقب ردود فعلهم قد أحبط وفقد الأمل من تهييجهم بالخوف والفزع.
يمكننا التلخيص بأن تونس بعد محاولة الاغتيال صارت أقوى وأعداء تجربتها أضعف، رغم ما تعانيه من صعوبات اقتصادية. لكن من تلك الصعوبات أن لديها مشاكل خزن صابة القمح التي فاقت قدرتها على التخزين. ذاهبون إلى الانتخابات يا جماعة دحلان بن زايد..
عربي21

Exit mobile version