مقالات

إستراتيجية أمريكا وإسرائيل والمعركة التي عميت دونها بصيرة العملاء وبصرهم

أبو يعرب المرزوقي

لم يكن قصدي بالقول إن الصفقة الكبرى المتعلقة بفلسطين ليست هي الهم الأول في ما يجري حاليا التقليل من أهمية فلسطين بل كان قصدي اعتبارها تحصيل حاصل إذا تمت الصفة الأساسية كما حصل ذلك في المرة الأولى: فلولا سايكس بيكو الأولى لما نجح وعد بلفور. ومن دون سايكس بيكو الثانية لن ينجح وعد ترومب.
والآن أريد أن أجيب عن السؤال المهم في سياسة أمريكا الحالية وعلاقتها بما سميته سايكس بيكو الثانية.
فهل تصرف ترومب في الأزمة الحالية منطقي وكان ينبغي أن يجري كما هو حاليا أم إنه دليل خوف من الحرب وتراجع؟
لو قلت إن كل من يعتبر موقفه تراجعا دليل جهل بمنطق الحصار وعلاقة المحاصِر بالمحاصَر. فالمحاصَر يستعجل ليس حسم المعركة العسكرية لعلمه بكلفتها بل الدبلوماسية: دعوة مبطنة للتفاوض أو لتحسين شروطه خلال جريانه لأني اعتقد أن التفاوض بدأ فعلا.
أليس وعدم رد المحاصِر رفض للتفاوض قبل نضوج الوضعية أو قبل تحقيق الحصار لمفعوله.
فلو رد بالسلاح لكان ذلك يعني أن خيار الحصار خطأ ولكان الأولى أن تكون الحرب من البداية. عدم الرد بكل الأعذار فيه فائدتان:

  1. الاولى تمكين الحصار من الإثمار.
  2. اقناع شعبه إن لزمت وهو يستعد لها بأنه حاول تجنبها.

متى تكون دلالة عدم الرد في الحصار دليل خوف؟
عندما يقع الحد من الحصار أو رفعه. فإذا كانت أمريكا تزيد في تشديد الحصار وفي تقوية شروط الحرب إن حصلت فذلك دليل على ما تحليلي وإذا حدت من الحصار أو رفعته فذلك دليل على الخوف من الحرب والعجز عن انتظار ثمرة الحصار إذا كان للأفعال منطق.
والاستراتيجية يمكن تعريفها بكونها منطق الأفعال الذي به تنتظم المعارك في المكان والزمان من حيث العمليات والتي تعد لها شروط الإمداد والاسناد مع تعديد السيناريوهات المبنية على ما لدى طرف من استعلام دقيق حول قوة الطرف المقابل وحول ما لديه من استعلام حوله حقيقيا كان أو باعتماد الخداع الاستراتيجي.
فإذا علمنا أن حصر المعركة الأمريكية في التصدي لإيران لا يدل على فهم مقاصد الاستراتيجيا الأمريكية ولا حتى الإسرائيلية خاصة ناتج عن توهم العرب أن إيران التي تخيف الجبناء منهم تخيف أمريكا أو اسرائيل. فالأمر لا يتعلق لا بإيران ولا حتى بروسيا بل بمنزلة الولايات المتحدة وإسرائيل في نظام العالم الجديد المهدد لهما بنهوض الشرق الأقصى الحاصل بعد ونهوض الإسلام الممكن أو الذي لم يعد مستبعدا.
وحتى لا يظن أحد أني أبالغ في وزن الإسلام فليفهم من وصفي إياه “بالنهوض الممكن” وليس الحاصل إشارتي إلى أمرين:

  1. سالب وهو عدم تمكنهما من السيطرة على ما فيه من غليان قد يعطل سباقهما مع النهوض الحاصل في الشرق الأقصى.؟
  2. وموجب إذا نجحت ثورة الشعوب فأزاحت عملاءهما فهما يعلمان أن ذلك سيفقدهما السيطرة عليه نهائيا.

وفي هذين الوجهين ليست إيران عدوا لهما بل هي الحليف الأمين الذي يمكن الاعتماد عليه في جعل الأنظمة العميلة تزداد ولاء لهما لأنها صارت البعبع الذي يخيف نعاج العرب وجعل الشعوب تنشغل بمعاركها الداخلية وتنسى المعركة الاستراتيجية الكبرى التي هي شروط استئناف دور الإسلام في العالم وخاصة في عدم البقاء رهان الصراع بين قطبي نظامه.
وبهذا المعنى فدار الإسلام السنية هي الرهان ما ظل أصحابها منفعلين بين القطبين الحاصلين فعلا وبصورة أدق بين قطب صاعد يهدد مكانة قطب بدأ في النزول النسبي بالقياس إليه لأن ما كان يتميز به الثاني بدأ يحصل عند الاول (العلم والتقنية) وما يتميز به الأول لن يحصل أبدا عند الثاني (الديموغرافيا والتجانس).
فأمريكا لا تستطيع محاصرة الصين إذ حتى لو حاصرتها فسوقها كافية لاقتصادها. أما العكس فلا لصغر حجم سوقها ولأن بقية ما حولها عندما يتغير التوازن سيصبحون تابعين للصين بدلا من التبعية لأمريكا وهذا على الأقل في آسيا وافريقيا وأوروبا وحتى في جنوب أمريكا. ما يعني أن أمريكا تصبح “دويلة” بمعيار الحجم في نظام العالم الجديد الذي سينقل جاذبية “الأدمغة” والإبداع إلى غيرها.
سيقال هذا من العالم الخيالي في السينما وليس من الاستراتيجيا. وطبعا من يتوهم أن الاستراتيجية ممكنة من دون خيال فهو عقيم الفكر وسقيم الذهن. حسن هل يعتقد أحد أن اليابان سيبقى دائما محمية؟
هل يعتقد أحد أن كوريا الجنوبية خاصة إذا توحدت مع الشمالية ستبقى دائما محمية؟
وهل يعتقد أحد أن استراليا وما حولها يمكن أن يكون لهما خيار إذا صارت الصين أول قوة في العالم؟
وهل يجهل القارئ ما تحققه الآن الصين في افريقيا وفي أمريكا اللاتينية من اختراقات مشهودة؟
وهل يعتقد أحد أن الهند إذا لم تنظم من الآن إلى ما تحاول أمريكا تحقيقه من حزام يحيط بالصين لن تجد مفرا من مهادنة جارها حتى لو كانت تعتبره عدوا؟
فما العلاقة بما يبدو حصارا لإيران من اجل الخليج؟
أعيد مرة أخرى تعريف الاستراتيجيا بوصفها منطق الأفعال المعدة للسياسة بأدوات الحرب أو بأدوات تغيير الإرادات العنيف المصحوب بمنطق الأقوال للخداع الاستراتيجي أو السلاح اللطيف لأصل إلى الغاية مما يحصل في علاقة بما سميته سايكس بيكو الثانية. فهذه هي الشرط الضروري والكافي للتصدي للنهوض الحاصل في الشرق الأقصى بمنع النهوض الممكن في دار الإسلام.
طبعا سيقال وما علاقة إيران بكل هذه الخرافة التي تدل على أنك تبالغ في التخيل؟
ولكن قبل تحديد هذه العلاقة ألا ينبغي أن نعلم من هم الأعداء المشتركين بين أصحاب هذه الاستراتيجية واستراتيجية إيران التي تسعى للاستفادة منها ركوبا لعمل أمريكا في الإقليم -مثلها مثل روسيا- للحصول على سهم من دار الإسلام؟ إنهم ثلاثة أقوام يمثلون النهوض الممكن.
والأقوام الثلاثة محيطون بإيران وهم أقطاب النهوض الممكن لدار الإسلام ماديا ورمزيا. وأعني بالمادي شرطي القوة أي حيازة قدر مهم من علوم العصر وتطبيقاتها وحيازة قدر محترم من التسلح الرادع والثروة التي تمثل أحد أركان القوة الممكنة التي إن حازتها الصين صارت ندا لأمريكا. أما الرمزية فمعلومة: فهم حماة الحرم الثلاثة ومركز دار الإسلام.
وهؤلاء الأقوام الثالثة حتى من حيث الديموغرافيا يعتبرون ندا للصين وأعني العرب والأتراك والإسلام الهندي سواء في دولتيه أو في الهند نفسها (كل قوم منهم يقرب من أكثر من ثلث المليار). فهم تقريبا مليار ونصف (لأن الأتراك ليسوا سكان تركيا وحدها بل جل الجمهوريات التي كانت سوفياتية تركية القومية والثقافة رغم عدم بروز ذلك حاليا).
وسايكس بيكو الثانية تحتاج إلى دور إيراني ولعلها مشروطة باتفاق مع إيران إذا مقابل استثنائـها منها بشرط دورها في تحقيقها وخاصة فيما يتعلق بتحقيق دولة الأكراد التي تبدأ بسايكس بيكو الثانية بـمراجعة الأولى في العراق وسوريا وتركيا والخليج. وتستثنى إيران إن هي تعاونت في ضرب المستهدفين منها وخاصة تركيا وباكستان لأن العرب يضربون أنفسهم بأنفسهم فجلهم عبيد الملالي.
والمستهدفون منها أولا هم العرب والأتراك. ثم تأتي المرحلة الثانية وهي ضرب باكستان والجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للسوفيات. وبذلك لم يبق من الإسلام إلا مستعمرات الغرب في أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا. وهؤلاء يمكن اعتبارهم بالقوة على الأقل توابع للصين إن ربحت السباق. وهي ستربحه إذا غرقت أمريكا وإسرائيل في محاولات تحقيق سايكس بيكو الثانية وخاصة إذا استطاع المسلمون استئناف دورهم الكوني.
والمغزى من كل ما حاولت شرحه هو أن إيران التي هي وريثة فارس أو هكذا تفهم استراتيجيتها رغم الكلام على الإسلام وآل البيت. فلا علاقة لها بالإسلام إلا بما كانت تعنيه الباطنية فيه ولا علاقة لها بآل البيت إلا إذا فهمنا آل بيت كسرى أنو شروان. إيران كانت ولا تزال فارس الحاقدة على الإسلام والعرب أيا كان نظامها الحليف الذي لا بد منه لغزو دار الإسلام من الداخل. عندي أن مضمون “الديل” الجديد الذي سيقترح على الملالي هو: موضوعه هذا الدور وشروطه.
لكن الخطة الجهنمية في هذه الاستراتيجية هي: كيف يمكن للأغبياء من حكام العرب ونخبهم أن يكونوا هم من يمول ويبرر هذه الاستراتيجية لتوهمهم أنها جعلت لحمايتهم من إيران بالحلف مع إسرائيل وأمريكا. في المرة الأولى استعملوهم ضد الخلافة. في المرة الثانية استعملوهم ضد السوفيات. والآن يستعملونه ضد أنفسهم وأمتهم وضد استئناف الإسلام لدوره في التاريخ. وأختم بالنتائج التي كانت مقدمات في تحليلي:

  1. المقدمة الأولى هي أن أمريكا لا تنوي محاربة إيران بل تسعى لصوغ ديل جديد يحدد معها يحدد دورها في سايكس بيكو ثانية. وهذه المقدمة صارت الآن نتيجة بعد الاستدلال عليها وعلى ما يقتضيه الحصار.
  2. المقدمة الثانية هي أن الحصار يحافظ على ما يراد استعماله لاحقا بخلاف الحرب فقد تقضي عليه. وقد صارت المقدمة الثانية نتيجة لأن المناورات الأمريكية لعدم الرد ليست ناتجة عن ضعف بل هي للمحافظة عليه إذ ما تزال محتاجة لدوره.

والهدف هو إذن دفع الخصم إلى اليأس. وذلك إما بعدم قبول الدعوة الضمنية للتفاوض إن لم يكن قد بدأ فتكون مناوشاته من جنس العنف الاستعطافي للعدو والخطاب العنتري للشعب -إذا كان التفاوض قد بدأ وهو عندي قد بدأ- حتى يقبل بشروط “الديل” الذي يدور حوله التفاوض السري حاليا بين أمريكا وإيران.
فتكون المناوشات الإيرانية جزءا من التفاوض الحالي وهي موجهة إلى الرأي العام الإيراني أكثر مما هي موجهة إلى الولايات المتحدة حتى يمرر الملالي التنازلات التي لن تتأخر. وبذلك فمن يتراجع حقا ليس الولايات المتحدة بل إيران. لكن السذج يخلطون بين العنتريات والقوة الفعلية. ولأنهم صدقوا عبد الناصر تصوروه سيرمي إسرائيل في البحر.
واليوم يصدقون دجالي الحرس الثوري. لو كان كلامهم صحيح لردوا على إسرائيل في سوريا. فمن يعجز عن الرد على إسرائيل كيف يصدقون عنترياته ضد أمريكا لو لم تكن القضية كلها تمثيل في تمثيل الهدف منها تمرير ما يفاوضون عليه وهو لا يتعدى أمرين:
ضمان بقاء النظام مقابل الدور الجديد في سايكس بيكو الثانية.
وترومب بما يبدو تراجعا يحقق كما أسلفت هدفين:

  • فهو أولا من البداية أعلن أنه لا يريد الحرب لكنه كل يوم يزيد الحصار تشديدا.
  • وتكرر المناوشات الإيرانية مفيدة له جدا لأن ذلك يولد في شعبه شيئا من الغضب للمهابة الأمريكية ما يجعله وكأنه مضطر للحرب إن وجبت فتكون شعبية ولا يخسر رهاناته الانتخابية لطمعه في دورة ثانية لحكم أمريكا.

ومما يؤيد تحليلي هو السكوت المريب من عتاة الصهيونية. أما كان من المنتظر أن يكونوا أكثر من العرب دعوة للحرب والرد العنيف على ما يبدو استفزازات إيرانية؟
كيف يمر ذلك مرور الكرام أمام ناظر ادعياء التحليل الفضائي (والهوائي بكل معاني الكلمة) من الاستراتيجيين العرب الفطاحل؟
فعندي أن ذلك ما كان ليكون كذلك لو لم يكن عليه سابق اتفاق: فما يخيف إسرائيل ليس إيران ولا حتى قنبلتها لو فرضناها تحققت لأن من يملك أكثر من 200 قنبلة في أرقى مستويات التسلح الذري الحديث لا تخيفه إيران ولا حتى أوروبا كلها ما يخيفه حقا هو الاستئناف الاسلامي الذي وصفت وهو ليس مستبعدا على الأقل في توقعات استراتيجيتهم حتى وإن عميت عنه بصائر أعدائه بين أهله.
وأخيرا فإن كل المحللين العرب -سواء كانوا ممن لا يعادون الإسلام وهم أندر من الكبريت الأحمر- أو خاصة من أعدائه سواء كانوا صرحاء أو من أهل التقية لا يفهم موقفهم إلا بأحد الامرين: إما أنهم لا يصدقون أن الإسلام يمكن أن تقوم له قائمة أو وهذا هو الارجح يتمنون ألا تقوم للإسلام قائمة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock