زهير إسماعيل
(حول الانتخابات البلدية في تركيا)
في منتصف شهر مارس الفارط كنتُ في رحلة إلى إسطنبول مع مجموعة من الأصدقاء الخلاّن، يمكن أن أقول عنهم بأنّهم أصدقاء العمر وخلاصة التجربة. فتاريخ العلاقة يعود إلى منتصف السبعينيّات.
جمعتنا الفكرة منطلقا، ولم يفرّقنا ما عشناه من مسارات مختلفة كان للمكان وشروطه والزمان وتقلباته والذهن وهواجسه دور مهم فيها.
ولكن وفاءً عجيبا لـ”المعنى الأول” الذي جمعنا ونحن نخطو خطواتنا الأولى، يوما ما، ظلّ يسكننا. ولو أردنا ما هو لم ندركه. وهذا غير مهم فكلّ ما نعرفه هو أثره فينا.
تزامنت رحلتنا الجماعية التاريخية إلى إسطنبول مع انتخابات تركيا البلدية. وكنّا نحرص على التجوال الجماعي، وكان المرور بشوارع إسطنبول مثيرا لنقاشات حول التجربة التركية. كان الإعجاب النسبي هو الغالب تحت تأثير ما عرفته بنية المدن من تطوير والحياة من رفاه ظاهر، وهو ما يغري بالربط بين مظاهر التقدّم والرفاه والنموذج السياسي الحاكم، فآثار الإيديولوجيا كدبيب النملة في الليلة الظلمات على الصورة الملساء . حتى لاحظ أحدهم بأنّنا أشبه في علاقتنا بتجربة تركيا تحت حكم العدالة والتنمية بوفد من “شيوعيين عرب” ( أي أحزاب شيوعية) في الستينيات يزور موسكو “نموذج الاشتراكية” و”مثابة” شيوعيي العالم في نظرهم. فأهل الإيديلوجيا بمختلف مشاربهم طيبون حتّى أنّهم لا يرون، في أوّل عهدهم بالفكرة، إلاّ ما يتمنّون رؤيته.
كانت يافطات الدعاية الحزبية بمناسبة الانتخابات البلدية الشاملة تملأ شوارع إسطنبول، وكانت في أكثر من مناسبة قادحا لنقاش سياسي بيننا غالبا ما ينقلب إلى “مناكفات مفتعلة” في مقام هزل ولكنها حوت كثيرا من الجدّ مانحةً موجاتٍ من الضحك والتفكّه والبهجة لا أوّل لها ولا آخر.
كنتُ أميل إلى أنّ هيمنة حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن تتواصل أكثر من المدة المعقولة. وبدا لنا فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية “غايةً” و”حالةَ كمال”. وليس بعد بلوغ الغاية إلاّ الفتور، وليس بعد الكمال إلاّ “النقصان” وليس بعد وصول القمة إلا البدء بالنزول. وتبقى إمكان العودة إلى القمة أو إلى ما دونها مما تتيحه الديمقراطيّة في التداول على تسيير الدولة والمشاركة في بناء البلد.
وقبل نتائج الانتخابات، وبوحي من المحاولة الانقلابية الفاشلة في صائفة 2016، كتبنا مقالا في الموضوع (مهمة الإسلام السياسي التركي التاريخية). وفكرة المقال الرئيسية، وقد كنّا بسطناها في أكثر من مناسبة، تقوم على اعتبار أنّ الإسلام السياسي يمثّل “حداثة العرب المسلمين السياسية”، وأنّ أعلى مراحله هو “العدالة والتنمية”، وأنّ بلوغ هذه المرحلة يرتبط بـ”تأسيس الديمقراطية” وزوال ظاهرة الإسلام السياسي بحلولها في هوية وطنية. وقد مكّنت شروطٌ محدّدةٌ ومراحلُ ممتدّةٌ الحركة الإسلامية في تركيا من بلوغ هذه المرحلة. فكما أسست الكمالية “الدولة الوطنية” أسّست الأودوغانية “الدولة الديمقراطية”.
وبتأسيس الديمقراطية وشروط الاختيار الحر والتقدم الحثيث نحو المعنى السيادي والقرار الوطني، وببلوغ مستوى مرموق من الرفاه المادي وجودة الحياة، يكون الإسلام السياسي قد أنجز مهمته التاريخية. ويصبح التداول السلمي على السلطة بين مكونات الديمقراطية التركية تقليدا بقدرما يشي بديناميكية المجتمع والنخب وتجدّد الحياة يؤكّد استقرار الدولة وتأسس الحرية على مؤسسات ثابتة.
وقد جاء موقف الأحزاب القومية والعلمانية واليسارية التركية المعارض بإطلاق للانقلاب ومن وراءَه ليشهد ببلوغ هذه المرحلة (تأسيس الديمقراطية)، فقد كانت مواقفها دفاعا عن “الدولة الديمقراطية” ورفضا لمغامرات “الدولة العميقة الكمالية” الانقلابية، وكانت مؤسسة العسكر أداتَها (دولة الجيش). والذي واجه دبّابات الانقلاب هو الشعب التركي الحر ومناضلو حزب العدالة والتنمية جزء منه.
ولم يفرّق العسكر في انقلاباته الشهيرة على الاختيار الشعبي الحر بين اليساري (بولند أجاويد) والإسلامي (نجم الدين أربكان).
فتأسيس الديمقراطية بهذا المعنى هو الوصول إلى مرحلة “جيش الدولة”. وبهذا المعنى أيضا يمكن تعريف الكمالية ودولتها الوطنية بأنها “جيش له دولة”، ونعرّف الأردوغانية بأنَها “دولة لها جيش”.
وهذا المنحى هو الذي عرفه المجال العربي مع الثورة، ومكّن سقف الحرية المعمّد بدماء الشهداء من إلغاء أو الاتجاه إلى إلغاء مانع الاختيار الحر المتمثل في قوّة ثالثة فوق الدولة والمجتمع أي فوق القانون تخصصهما وتخضعه لهواها. وهذه القوة قد تكون الفرد (بن علي) أو القبيلة (صالح) أو الطائفة (بشار)، أو المؤسسة العسكرية (مصر، السودان، الجزائر).
فبنية الدولة الديمقراطية ثنائية: دولة/مجتمع، وبنية الاستبداد ثلاثية: دولة /مجتمع/ زعيم، أو دولة /مجتمع /مؤسسة عسكرية.
الثورة جاءت للإطاحة بهذه البنية الثلاثية حتى يتسنّى الاختيار الحر. وهذه المهمة لو أدركها الفرقاء الإيديولوجيون لما اختلفوا على المهمة الأولى: تأسيس الديمقراطية مدخلا إلى العدل والتنمية، ولما اختلفوا حول شرطها: إزاحة القديم الاستبدادي.
الدولة الوطنية لم تنطلق مع الكمالية بقدرما كانت تعبيرتًها الأخيرة (إلغاء الخلافة: من الإمبراطورية إلى الدولة) ، والدولة الديمقراطية لم تُخلق مع الأردوغانية بقدرما شُرّفت بأن تكون واضعة اللبنة الأخيرة في صرحها.
فالمسألة في تركيا لم تعد تتعلق بمستقبل الإسلام السياسي صعودا ونزولا، لأنه ببساطة لم يعد هناك إسلام سياسي، وإنما الأمر متعلّق بمستقبل الدولة الديمقراطية وتنافس القوى السياسية في رسم ملامح تركيا.
الإسلام السياسي في تركيا أنجز مهمته التاريخية وحلّ في هوية جديدة داخل السياق الديمقراطي…هذا الكلام قد يعني اردوغان نفسه ليتأكد من أنّ أشواقه السلطانية وما قد يخامره من نوازع سلطانية (تغيير الدستور، وخلافه مع رفاق دربه)، ليست أكثر من وساوس زالت شروطها وجبّها التطور.
كانت رحلة إسطنبول مع إخوة الشباب ورفاق الكهولة وصحابة الشيخوخة متعة شاملة.