تفاهةُ أن يكون المرءُ مثقفًا !

محمد كشكار

مواطن العالَم
أبدأ بتعريف المثقف حسب المثقف جلال أمين، تعريفٌ أعجبني: “لقد تبينت مع مرور السنين، أن مدلول الكلمة الأنجليزية (intellectual) لا يتوافر إلا في عدد قليل من الناس، وتوافره بين أساتذة الجامعة، مصرية كانت أو أمريكية، ليس أكبر بالضرورة منه بين غيرهم، وأن الحصول على الشهادات العالية، لا يدل على أي شيء على الإطلاق فيما يتعلق بهذه الصفة. إن كلمة (intellectual) ليس لها في الحقيقة مقابل شائع باللغة العربية، فهي بالطبع لا تعني المتعلم ولا حتى المثقف، بل تشير إلى الانشغال المستمر، أو شبه المستمر، بأمور فكرية، أو رؤية المشكلة الفكرية وراء أي حدث أو ظاهرة من أحداث وظواهر الحياة اليومية (مما عبر عنه تعبيرا طريفا كاتب أنجليزي كان يصف جورج أورويل، فقال عنه إنه لا يمكنه أن يُخرج المنديل من جيبه ليمسح أنفه، دون أن تخطر بباله المشاكل الأخلاقية التي تثيرها صناعة المناديل!).
ثم أمر للكلام المباح وأعدد لكم فضائل المثقف حتى لا تخطئوه إذا صدفة قابلتموه: المثقف، ذكر كان أو أنثى إن بقي فيه ذكورة أو فيها أنوثة، هو مَن لا شغل له إلا الثقافة، هو مَن ترك الشباب وراءه، هو مَن لم تسعفه الطبيعة بقدر كافٍ من الصحة والوسامة، هو مَن يشتكي دومًا من قلة الحيلة وشُحّ ذات اليد، هو مَن ضعفت همته ووهنت ذراعه، هو مَن لم يفتَك حظه في الحياة وبقي يتحسّر على ما فات، هو مَن هرمت أسنانه ولم يعد قادرًا على العضّ بجميع أنواعه.
هو شخصٌ معقّدٌ، ناقصُ البصر ومثالي البصيرة، يرى البعيد ويعمى عن القريب، عاجزٌ عن المغامرة، خوّاف من الغد، متردد في التنفيذ، متحدث حريص على أن لا يخطئ أبدًا، حامل لكتاب ونظارات مقعّرة، مُخِلٌّ بواجباته الدينية والعائلية وفي بعض الفترات حتى الزوجية، مرهف الإحساس، محاضر دون مناسبة، متطوع ساذج، متكلم في مسائل لا تهم سامعيه، دقيق الملاحظة، صعب المراس، غير مرن مع المتأدلجين، غير مؤنس للتافهين، محطم للأساطير والأصنام والعباد المعبودين، كاتب في كل الاختصاصات والميادين، كاظم للغيظ كَرهًا، مسالم جبنًا. لا يصلح قائدًا أو أميرَ، ولا رئيسًا أو وزيرَ، ولا حتى مستشارًا أو مديرَ. هو بشر يحسب نفسه ربْ، لا يعجبه العجبْ ولا حتى الصيامَ في رجبْ.
بالله عليكم، أصدقوني القول: هل صادفتم في حياتكم يومًا شابة جميلة رقيقة ومثيرة مثقفة أو شابًّا وسيمًا مفتولَ العضلات وممشوقَ القِوام مثقفًا؟
المثقف، لا رائحة لا لون ولا طعم له، لا موقف شخصي ولا رأي خاص يدعو له، يحب ما يحبه الكتاب ويكره ما يكرهه الكتاب، لا يصدّق ولا يصادق ولا يثق إلا في الكتاب، ليس له مشاريع للإنجاز، مشاريعه كلها طُرحت ونُوقشت وأنجِزت في الكتاب، لا يحلو له السهر ولا الجلوس في المقهى إلا مع الكتاب ولو خُيّر بين المال والبنين والزوجة والأصحاب مجتمعين لاختار الكتاب، ذوقه من الكتاب، رأيه من الكتاب، ربه الكتاب، عِشقه الكتاب، حبيبه أنيسه صديقه الكتاب، لو الجنة خالية من الكتاب لَفضّل عنها جهنم بكتاب، عواطفه مشاعره أحلامه أمانيه تطلعاته مستمدة من الكتاب، عينه كتاب، أذنه كتاب، كل أسماء أولاده من كتاب، الزوج المثقف يعانق في زوجته بطلات الكتاب وكذلك تفعل الزوجة مع زوجها، لا تحضنه المسكين بل تحضن فيه أبطال الكتاب.
خاتمة: المثقف لا يصلح لشيء أو يصلح لشيء قريب من الشيء لكن هذا الشيء القريب من الشيء هو في بناء الحضارات كل شيء، هو صفر والصفر في الرياضيات هو كل شيء، هو الملح وطعام دون ملح لا يساوي في المذاق شيئًا. إذا يومًا في الطريق صادفتموه، “سلمولي عليه وبوصولي عينيه”. ما أقصر العمر حتى نضيعه في الثقافة!
إذا مات مثقف من ذوي قرباكم، أوصيكم به خيرًا، اقرأوا عليه كثيرًا من الكتاب وافرشوا قبره بوريقات من كتاب لم يقرأه وعِوض التراب ذروا على جُثمانه ألف كتاب وكتاب.
ملاحظة موجهة إلى ضيّقي الصدور من المثقفين: أحبابي حبيباتي لا تغضبوا فكل “حسناتكم” التي ذكرت وجدتها في كتاب فلا تلوموني على ما نقلت ولوموا الكتاب، هو الذي خلقكم في “أحسن تكوين”، فقط لا تنسوا أن مرآتكم كتاب، وإذا ساءكم ما عدّدت في مقالي من صفات “حميدة” فانسبوها كلها لي، وهي في المجاز كلها في، حتى ولو لم يكن في الواقع بعضها في.
إمضائي: “وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر آخر” جبران
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 21 جوان 2019.

Exit mobile version