حصار إيران الحالي حده الجامع المانع ودلالته الاستراتيجية
أبو يعرب المرزوقي
هل أمريكا كانت تنوي الحرب ثم تراجعت؟ قد يكون ذلك ما كان يعتقده بعض قيادات العرب السذج. لكن كل من يعلم دلالة الحصار في تاريخ الحروب ما هي يعلم أنه بديل من الحرب الفعلية وأقل كلفة. فهو يقتضي الاستعداد لها إن وجبت وانتظار النتيجة من دونها إن سقط المحاصر بالحصار دون قتال أو دفعه للقتال اليائس.
هذا هو التعريف الجامع والمانع للحصار وعلاقته بالاستعداد للحرب الذي يظنه الغافلون وكانه كان يقصد الحرب ثم تراجع لأنه غض الطرف عن بعض ردود فعل المحاصر مثل ما حدث في ضرب ناقلات النفط رسائل لشعبه وليست مما يمكن أن يغير طبيعة الحصار وانتظار السقوط أو حرب اليأس.
لا يوجد عاقل يعرف ما ينتظر ترومب يصدق أنه ينوي خوض حرب وهو يستعد لانتخاب النوبة الثانية في حكم الولايات المتحدة. لكن الحصار يحقق له ما يحققه ضرب عدة عصافير بحجر واحد: فإما تخضع إيران وتفاوض على اتفاق جديد بديل من السابق أو يسقط النظام أم تبدو معتدية وتشرع في حرب فيكون شعبه معه وهو الشرط السياسي لخوض الحرب دون خسارة الانتخابات على ألا تدوم طويلا.
لا أعتقد أن فهم ذلك يحتاج إلى علم لدني. لذلك فما زلت مستغربا ممن يتوهم أن التجييش الذي حصل من قبل الارمادا الامريكية قد أول على أنه بقصد الحرب العاجلة. قد يكون فيه قصد الحرب الآجلة لأنه لا يمكن تصور أمريكا وأسرائيل تقبلان أن تصبح إيران قوة نووية حتى لو اضطروا لمنعها بنفس السلاح.
وبالمناسبة فإن ذلك ليس مقصورا على إيران بل هو يشمل كل المسلمين والبداية بإيران في الأقوال لا يعني أنها هي التي قد تضرب أولا. فقد يكون ذلك مؤجلا لأن الحاجة إليها ما تزال قائمة ولأن إيران ما تزال بعيدة عن السلاح النووي. العاجل هو استكمال الإطاحة بكل عوامل القوة عند السنة.
فمن له دراية بتاريخ علاقة الغرب بالإسلام منذ نشأته إلى اليوم يعلم أن الشيعة كانت ولا تزال تعتبر حليفة له ضد الإسلام أولا لأنها ليست منه إلا بالاسم وثانيا لأن التاريخ يثبت أصولها الباطنية كانت حليفة الصليبين (الدولة الفاطمية) ثم لمغول الشرق ثم للاسترداديين ثم لمغول الغرب حاليا.
والأمر لم يتأخر حتى حدوث الفتنة الكبرى بل هو بدأ منذ اغتيال الفاروق ونقل الخليفة الرابع عاصمة الخلافة من المدينة إلى مستعمرتها التي تفاخر اليوم بردها أعني العراق تماما كما نقل معاوية الخلافة إلى عاصمة المستعمرة الثانية -دمشق- في الأرض التي حررها الإسلام (بيزنطة): والتبعية عادت.
فلا ينبغي أن ننسى أن الشام اليوم محتلة من ورثة فارس المتقدمة على الإسلام (إيران) وورثة بيزنطة المتقدمة عليه (روسيا الارثودوكسية). والتاريخ لا يرحم. وما هو عاجل هو الاستحواذ على الخليج بعد العراق وعلى تريكا بعد سوريا. ولهم في ذلك حاجة إلى الجرافة الصفوية التي تستعملها الصهيونية.
لذلك فليست إيران هي المستهدفة بل الغاية هي جعلها تحقق دورها من دون ما تصبو إليه من الحصول على ما قد يغريها بأن تستقل بدورها من أجل ذاتها وشرط ذلك أمران:
- منع السلاح النووي.
- الإبقاء على إيران.
ولكن في الدور الذي كان لها وقت الشاه ومن ثم فالهدف تغيير النظام إن لم يتخل عن النووي. وظني أنه سيتخلى عن السلاح النووي لضمان بقائه والعودة إلى دور الشرطي الثاني كما كانت إيران في عهد الشاه حتى لو بقي الملالي. ذلك أن دورها لم ينته بعد. متى ينتهي؟ خمسة شروط:
- بلع إسرائيل للخليج.
- ضرب تركيا.
- ضرب باكستان.
- استتباع أوروبا نهائيا.
- والغاية هي البقاء القوة الأولى في العالم ومنع الصين من السيطرة عليه.
ماذا يعني “الأرض الموعودة” كل دار الإسلام؟ ماذا يعني كل دار الإسلام؟ ليس بالضرورة الاستحواذ عليها كما فعلت الولايات المتحدة في أمريكا بل السيطرة عليها كما تفعل أمريكا بالعالم وتسعى إلى المحافظة على سيطرتها بهذه الاستراتجية.
والمعلوم أن أمريكا سميت الأرض الموعودة الجديدة في إيديولوجية غزاتها من الإصلاحيين البروتستنت المتأثرين بالتوراة -بداية المسيحية الصهيونية متقدمة على الصهيونية اليهودية- ونفس الأمر يوجد في تصورهما لشروط بقاء الامبراطورية الأمريكية الإسرائلية المقبلة.
وليس بالصدفة أن يكون كسنجر قد توقع إنهاء سبعة دول في اقليمنا -أي قلب دار الإسلام- وليس بالضرورة أن يكون بحرب تشنها أمريكا بل بما نراه من حرب أهلية هي بصدد التوسع بين العرب ثم بينهم وبين الأكراد والاتراك وربما الأمازيغ حتى يتآكل الاقليم فيصبح لقمة سائغة لأمريكا وإسرائيل وحدهما.
وكلنا يعلم أنه لا يمكن لأوروبا العجوز أن تسترد مستعمراتها السابقة والتي فقدتها في الحرب العالمية الثانية وأصبحت هي بدروها مستعمرة أمريكية روسية ولا تزال بل القوة الصاعدة لتنافس الشرق الأقصى هي أمريكا وإسرائيل ولا أحد غيرهما إذ حتى الهند فهي مجندة معهما ضد مسلمي الهند الثلاثة (الدولتين المسلمتين ودولة الهند نفسها).
وأوروبا مهددة مثلنا أولا لأنها لن تكون قادرة على فعل شيء إذا استحوذت أمريكا واسرائيل على قلب دار الإسلام وثانيا لأن روسيا نفسها لم تعد قوة معتبرة في الموازين المقبلة من نظام العالم ويمكن أن تتعرض هي بدورها للتفتيت خاصة وهي بلد المافيات والتعدد العرقي والظلم السابق في عصر السوفيات.
فلا أعتقد أن أمريكا يمكن أن تسلم قيادة العالم للصين. ولا أعتقد أنها يمكن أن تواصل قيادة العالم من دون احتلال تام لدار الإسلام عامة ولقلبها خاصة. وهذا هو دور الجرافة الإيرانية المعد للحليف الصهيوني في الاقليم. لكن العرب متأثرون باستراتيجية هيكل.
حرب أهلية بينهم موضوعها ليس تحقيق شروط قوتهم بل الاحتماء بأحد القطبين. كأن يخير العرب بين أمريكا وروسيا ولا يرى حلا ثالثا. ثم صار يخيرهم بين إيران وإسرائيل ولا يرى حلا ثالثا. وطبعا هو يفكر كذلك لأنه كان معاديا للحل الثالث أي ما يجمع سنة الإقليم ودار الإسلام: يعادي الاستئناف.
ولا يمكن ألا يكون قد دار بخلده الحل الثالث أعني الحلف بين العرب والشعوب الأربعة الأخرى التي كانت ولا تزال اساطين دار الإسلام وحماتها في كل تاريخ الإسلام: العرب والكرد والأتراك والأمازيع وسودان افريقيا وهم شعوب ملتقى القارات الثلاث القديمة التي لولاها لضاعت دار الإسلام نهائيا.
وحتى نفهم ذلك فلنعلم أنه كان من “نخبة” مصر الفتاة الفاشية وصاحب فضيحة كتاب الثورة الذي يعتبر الدوائر الثلاث -العرب والأفارقة والمسلمين- مجالا حيويا لمصر الفرعونية كان يعتبرنا مستعمرات مصرية ممكنة ما يعني أنه اعتبر أمة الإسلام من الماضي الذي لم يعد له أي إمكانية للاستئناف. لكن أعداء الأمة كانوا يعلمون أنه ليس مستبعدا لأنهم لم يكونوا حمقى مثله وكانوا أدرى بما بجري وذلك منذ سايكس بيكو الأولى وهم يعملون على سايكس بكو ثانية.
فما توقعه هيجل في الجزء الرابع من فلسفته في التاريخ (العصر الجرماني) كذبه التاريخ لأن زخم الاستئناف يزداد يوما بعد يوم وهو ليس ديموغرافيا فـحسب بل -رغم الضعف الظاهر- الكثير من شعوبه بدأت تتمكن من ناصية ما به تفوق الغرب عليه أعني العلوم وتطبيقاتها ومن ثم فالاستئناف لا ريب فيه.
إيران ليست مستهدفة إنما هي حملة تأديبية لما بدا وكأنه تنطع إيراني خارج المهمة المكلفة بها. وما أن تعود إلى دورها -وهي عائدة لا محالة إما بهذا النظام أو بما سيليه بعد إسقاطه- لتكون كما كانت دائما حصان طروادة في البيت الإسلامي تحارب الأمة بتحريف الإسلام وترذيل شعوبه باستعبادهم.
كذلك ينبغي ان نفهم التصريح الأمريكي الحالي والمتردد كثيرا على لسان الرئيس ولسان وزير الخارجية وحتى على لسان المستشار المتهور بأنهم لا ينوون الحرب ولا يريدون إسقاط النظام وليس ذلك نفاقا ولا كذبا ولا خداعا للإيرانيين بل هو مضمون الاتفاق الجديد الذي تقترحه أمريكا وإسرائيل على إيران وخاصة على نخبها واجهزة امنها التي إن خيرت بين الحرب وهذا الحل فستختاره طوعا.