عبد القادر عبار
في زمن الرداءة.. كل الغرائب ممكنة.. وكل الرداءات تجد من يسوّقها.. حيث يرتفع الوضيع ويذلّ الحرّ، ويوسّم النذل ويجلد الكريم.. ويكرّم أصحاب العمائم الفاسدة وينكّل فيه بأصحاب العمائم الصالحة ويلقى فيه بالصادقين في السجون والمعتقلات.
ومن منغّصات هذا الزمن ظاهرة “عمائم الويفي Wifi”.. او ما يسمى بشيوخ “الويفي” أولئك الذين يخضع خطابهم وتتكيف مواقفهم وتزهر فتاويهم حسب ارتفاع وانخفاض درجة مجال “الويفي wifi” السياسي، الذي يخضعون لقبضته ويدورون في فلكه ويستظلون تحت سقفه ويتجهون حسب بوصلته.
فمرة تبهرك معارضتهم وثوريتهم وحجاجهم “وان يقولوا تسمع لقولهم” ومرة تصدمك إمّعتهم وتبعيتهم وفسادهم.
1. عمائمنا.. وعمائمهم
عرفت العمامة قدرها ومجدها وعزها يوم كانت تكوّر حول رؤوس رجال العرب صناديدهم وفرسانهم، اجوادهم وكرماؤهم، شجعانهم وأشرافهم، علماؤهم وفقهاؤهم.
وكان المستضعفون والمظلومون قديما عند العرب في جاهليتهم يلوذون ويحتمون بعمامة الرجل أو بالرجل المعمم إذا نزل بهم مكروه او مظلمة أو طلبوا حماية، او نصرة (في غياب منظمة الأمم المتحدة) فمن دلالات قول العرب في وصفهم لسيد من أسيادهم: “سيد مُعَمَّم” أي عبارة عن الأمم المتحدة في زماننا او الدول العظمى التي تملك حق النقض او منظمة دولية لها نفوذها وسلطانها ذلك أن كل جناية يجتنيها الجاني هي في اعتقادهم معصوبة برأسه وتحت عمامته وعلى صاحب العمامة تبنيها والدفاع عنها.
ولكنها عرفت نكستها وأهانتها عندما تجرأ عليها الظالمون واتخذوها مناديل يمسحون بها ضلال فتاويهم ويوقعون بها على تفاهات قراراتهم.
وأما عندنا فقد برك قدرها وارتخى مقامها وفقدت هيبتها.. عندما انحنت العمامة الزيتونية وقبّلت رأس “مباركة” ذات جلسة من جلسات مجلس النواب الشعب.
2. هي قطعة قماش.. ولكن لها دستورها
والعمامة في ابسط صورها وتعريفها. كما يقول -ابن سيدة- هي “قطعة قماش تُلفّ على الرأس لفّة أو عدة لفات، سواء أكان تحتها طاقية أم لم تكن “وتُعَدّ العمامة فخر العرب وعلامة عزهم، وأحسن ملبس يضعونه على رؤوسهم افتخارا ومباهاة فبها يعرف سيد القوم ويرمز إلى شيخ القبيلة ويتميز صاحب الجاه والشرف، وكان لها دستورها الاجتماعي فإذا أُهينت العمامة لحق الذلّ بصاحبها، وكان من عادة العرب انه إذا رأى الرجل فيهم انه قد هضم حقه وأهين ألقى بعمامته على الأرض غاضبا ومحتجا، علامة على المطالبة بالإنصاف والانتصار ورد الاعتبار وجبر الضرر المعنوي.
وكانت العرب في الجاهلية تسمي سعيد بن العاص بن أمية “بذي العمامة” أي سيد أسيادها، ومن دستوره وشروطه ان تكون عمامته مميزة ومتميزة ويحجر على مواطني المجتمع المكي ان يقلده احد في لونها او تكويرها او حجمها فكان إذا لبس العمامة لا تلبس قريش عمامة على لونها.
3. من نكت العمائم
ومما يروى من نكت المعمَّمين وهو ما يظهر مكانة العمامة العلمية عند العوام ورمزيتها الدينية عند الناس ومالها من احترام لديهم وخاصة اذا كان المتعمم رجل دين وفقه: “ان عالماً فقيها سقط من فوق حماره في شارع من شوارع مدينته، فتدحرجت عمامته بعيدا عنه، فتجمّع حوله المارّة ثم سرعان ما تركوه وانشغلوا بمصير العمامة الهاربة وأخذوا يجرون وراءها صائحين: ارفعوا تاج الإسلام، ارفعوا تاج الإسلام.. بينما كان الفقيه المسكين طريح الأرض معطوب البدن وهو يناديهم موبخا ومغتاظاً: أسعفوا شيخ الإسلام أولاً.
4. عمائم مالت فذلّت.. وأخرى عارضت فعزّت
أصحاب العمائم ليسوا سواء.. من العمائم من تمنح فرعون القصر شرعية القتل وقطع الرزق وإيذاء المؤمنين وظلم الناس بغير حق وعمامة “علي جمعة” ليست منا ببعيد.
عمائم كبيرة عبر التاريخ مالت إلى الظالم الطاغي فهانت، وأيدته في باطله فذلت.
وعمائم أخرى شريفة عرفت رسالتها فقاومت ونصحت واحتجت وعارضت فرفع الله ذكر أصحابها ومنها عمامة العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء وبعز الدين وببائع الأمراء.. سأله أحد تلاميذه بعد موقف من مواقف معارضته ونقده للحاكم: يا سيدي كيف استطعت أن تقف أمام السلطان العظيم وتصرخ به أمام أمرائه وتُناديه باسمه مُجردًا؟ فقال الشيخ: يا بُني رأيته في تلك العظمة الكاذبة فأردت أن أهينه لِئلا تَكبُر نفسه فتؤذيه.
فقال التلميذ: يا سيدي أما خِفته؟
فابتسم العز بن عبد السلام وقال: والله يا بُني إني عندما استحضرت هيبة الله تعالى صار السلطان أمامي كالقط.
5. عمائم أزهرية
– عندما انتقد الشيخ “عبد المجيد سليم البشري” شيخ الأزهر الملك فاروق في بذخه، في رحلة شهر العسل التي قام بها مع زوجته “ناريمان”، وقال مقولته الشهيرة: «تقتير هنا.. وإسراف هناك». أجبر على ترك منصبه عام 1951 بسبب انتقاده السلطة.
- وفي عام 1954 قدم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر استقالته، بسبب رفضه إصدار فتوى طلبها منه جمال عبد الناصر تعتبر الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وخوارج، واحتجاجا كذلك على إلغاء المحاكم الشرعية.
وللعلم فقد تهكّم عبد الناصر في إحدى خطبه على الأزهر وعلمائه قائلاً «إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه”.
6. عمامة بن عاشور
موقف الشيخ بن عاشور من دعوة بورقيبة للإفطار في رمضان.. أصبحت مشهورة غير خافية في الشرق والغرب نظرا لجرأة صاحبها المعمم فقد دعا بورقيبة في خطاب فيفري 1960، العمالَ إلى الإفطار في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، قائلا: “تونس بلاد إسلامية تعاني من الانحطاط ولذلك فإنه لا يمكن أن يعرقل جهادها أو يعطله أو يوقف انطلاقها أو يقعدها عنه فرض الصوم… فالصوم يحطّ من إمكانيات الفرد ويجعله لا يقوى على واجب هو ليس واجبا شخصيا بل واجب نحو أمّته ونحو دينه وإذا اردتم أن يكتب الله لكم ثوابا في الدار الآخرة فما عليكم إلاّ أن تعملوا بضع ساعات إضافية خير لكم من صوم لا عمل فيه يدفعكم إلى زيادة التقهقر.”
وأتبعه بالتطبيق، حيث قام بتناول كأس من العصير جهارا نهارا ليقتدي به السامعون والمشاهدون..
وسارع الى البحث عن فتوى من أصحاب العمائم، تصدق ما نادى به. ودعا ابن عاشور أن يصدر فتوى بجواز الفطر للرفع من مستوى الإنتاجية.
لم يرضخ صاحب العمامة الزيتونية، لأوامر السلطان. فخرج العالم المعمم عبر أثير الإذاعة التونسية وأفتى بحرمة الإفطار، وأبطل دعوى أن الصيام يحول دون الإنتاج.
وتلا الشيخ آيات الصوم: ”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، ثم قال: “صدق الله وكذب بورقيبة”.
وهزمت العمامة صولجان السلطان
– يا أصحاب العمائم اعتبروا.. لا تميلوا حتى لا تسقط عمائمكم وتفقدون شرفكم العلمي.