أبو يعرب المرزوقي
كلما أمعنت التظر في حال الأمة ازددت اقتناعا بأن التشخيص الأتم لأدوائها لم ينتظر ما نراه اليوم. فـحالها حاصلة منذ أن نشأ ما يسمى بعلوم الملة الغائية الخمسة وتطبيقاتها أو بلغة ابن خلدون منذ أن تأسست تربية المسلم بها وحكمه بتطبيقاتها. وقد وصفها ابن خلدون بـحال من فسدت فيه “معاني الإنسانية”.
وقد حمل ابن خلدون مسؤولية فساد معاني إلإنسانية في أي أمة -لان كلامه على العمران البشري والاجتماع الإنساني عامة وليس على المسلم منه حصرا- للتربية والحكم العنيفين قيسا للثاني على الاولى دون حصر للعنف في مدلوله المادي حتى وإن كان كلامه بمناسبة الكلام عليه خاصة لكنه جمع بين مدلوليه المادي والمعنوي.
تكلمت عديد المرات على مفهوم “فساد معاني الإنسانية” ومآله إلى الحال التي نعيشها نحن الآن. ويجملها ابن خلدون في كلمة وجيزة هي تحول الجماعة التي تصاب به إلى “عالة” وأفرادها إلى “عيال” على غيرهم في الرعاية وفي الحماية. ومن ثم فقدان السيادة الجماعية والحرية الفردية أو منزلة الإنسان الوجودية “أي الرئاسة”.
ومنزلة “رئاسة الإنسان” يعرفها ابن خلدون تعريفا يجمع بين الفلسفي والديني. فهي عنده “الإنسان رئيس بطبعه (فلسفية) وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دينية)”. وهذا هو التشخيص الذي يعنيني اليوم وهو ما أريد أن أصوغه بصورة أكثر نسقية حتى نعلم بالتدقيق طبيعة الأمراض التي نعاني منها.
وقبل ذلك فلأوضح علـة اهتمامي الدائم ببيان الطابع الروحي في ثورة الأمة الحالية وعلة الحرب عليها من الجميع بدأ بالعملاء من الحكام والنخب وختما بذراعي الاستعمار في دار الإسلام أعني إسرائيل راعية الثورة المضادة في الخليج ومصر وإيران راعية الثورة المضادة في الهلال واليمن وتوسطا بمحركي كل الإعداء ضد الإسلام أعني الغرب والشرق المستفيدين من حربنا الأهلية ومن حمق القيادات والنخب العربية انعدام البصيرة.
لكن شباب الثورة -من بداية الموجة الأولى في تونس إلى بداية موجتها الثانية في السودان وهما حدان متقابلان – فأولهما أكثر بلاد العرب علمنة والثاني أكثر بلاد العرب دروشة- شباب الثورة ليست دوافعه كما تبين شعاراته حتى وإن لم يكن واعيا بدلالتها العميقة إلا هذا المعنى الذي عرف به ابن خلدون الإنسان “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
وقصدي أن الشباب بوعي أو بغير وعي أصبح مدركا على الأقل وجدانيا إن لم يكن عقلانيا أن الرهان هو كرامة الإنسان وحريته. وهما بعدا الرئاسة فلسفيا والاستخلاف دينيا. وبهما يتطابق الفلسفي والديني تطابق الطبيعة والفطرة في الرؤية القرآنية. والدليل اختيار بيتي الشابي لاصلاح ما كان سائدا حول مفهوم القضاء والقدر.
فالانحطاط في حضارتنا بدأ مع فهم القضاء والقدر نفيا لحرية الإنسان شرط كرامته التي نتجت عن تكليفه وتحميله مسؤولية تاريخه باعتباره هو صانعه. وما القضاء والقدر إلا تسجيل لأفعاله إذ إن الإنسان يحتاج رمزيا إلى هذه المتابعة للحكم له أو عليه من حيث الجدارة بالاستخلاف أو بالرئاسة التي وهبت له.
وما بيتا الشابي إلا ترجمة شعرية لآية قرآنية تتعلق بسنن التغير التاريخي الذي يحققه الإنسان فيسجله القضاء والقدرة ولا يسببه “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]” والشابي لم يفعل شيئا بل اكتفى بـالتقديم والتأخير في مقومي الآية لتأكيد هذا المعنى.
فالشابي قال: إذا أراد شعب الحياة -لا مجرد حياة- فإن القدر يستجيب واعتبر ذلك من السنن الثابتة بل وذهب إلى أنها ضرورة -لابد- فظن أصحاب الرؤية القديمة التي آلت إلى انحطاط الأمة أن ذلك كفر في حين أن الآية صريحة بأن الله لا يغير ما بقوم -إيجابا أو سلبا- إلا بشرط أن يغيروا ما بأنفسهم وهو المعنى الذي قصده الشابي وقد لا يكون قصده بوعي إذ المعنى من مخزون الضمير الإسلامي المتقدم على الأنحطاط.
وهذا المعنى -الذي يلتقي فيه ابن خلدون بداية والشابي غاية وكلاهما من خريجي الزيتونة المعمورة أصلا للأزهر والقرويين لمن لا يعلم ذلك- هو الذي أريد شرحه اليوم بصورة أكثر نسقية من الرجلين رغم اعترافي لهما بالفضل الذي لا يعتبر عملي بالإضافة إليه إلا إضافة عمل الشارح لا أكثر ولا أقل.
وأبدأ فاعتذر للأخوة في السودان ولي من بينهم الكثير من الأصدقاء. فلم استعمل “دروشة” في كلامي عليه للتحقير بل بنفس المعنى الذي استعملته لكلمة علمنة في كلامي على تونس. فإذا اعتبرت الأولى تحقييرا فالثانية اكثر تحقيرا منها. لكن قصدي التحريف المفروض عليهما كليهما وبالتساوي.
فلا تونس معلمنة إلا عند المستبدين بها وما صنعوه من ستيريوتيب لوصف فترينتهم. ولا السودان مدروش إلا عند المستبدين به وما صنعوه صنيع مستبدي تونس. لكن شعب تونس العميقة وشعب السودان العميق “صح ستار”. كلاهما صار رمزا للثورة في موجتها الأولى (تونس) وفي موجتها الثانية (السودان).
وما سأضيفه هو دلالة “رئاسة الإنسان بطبعه” ودلالة “رئاسة الإنسان بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. وقد قلت إن الدلالة واحدة. لكن الأولى فلسفية التأسيس والثانية دينيه. وما أظن أحدا بحاجة إلى بيان علة الوصفين. فـ”بطبعه” عبارة الفلسفي عنها. وبـ”مقتضى الاستخلاف الذي خلق له” عبارة الديني عنها.
والفكر الفلسفي وخاصة الحديث -وإذن فابن خلدون حتى بهذه وحدها يمثل حقيقة الحداثة- يعتبر الـحرية صفة طبيعية للإنسان وهي أساس كل ما يسمى بحقوق الإنسان التي مجموعها يمثل دلالة الرئاسة أو معاني الإنسانية. والفكر الإسلامي -وإذن فهو حتى بهذه وحدها قد فهم ثورة الإسلام الكونية- يعتبر الخلافة صفة طبيعية للإنسان ومجموعها هو أيضا معاني الإنسانية في القرآن ومنزلة وجودية أو رئاسة.
ولأبدأ فأشرح معنى الرئاسة عند ابن خلدون -وهي مناقضة تماما لمعنى السيادة الهيجلية التي تقابل العبودية وكلاهما مستمد من سيطرة السيد وخضوع العبد في معركة التعارف القتالية النافية للأخوة البشرية أو للعلاقة بين البشر في غياب الله- هي اعتراف الإنسان بالإنسان من حيث هما إنسانان مؤمنان بمنزلتهما الوجودية خلفاء لرب الجميع ومعبودهم.
وإذن فتعريف ابن خلدون للرئاسة شرح ضمني للحجرات 13. المساواة المطلقة والتعارف المطلق بين البشر ولا تفاضل بينهم إلا عند خالقهم بمعيار التقوى أي احترام القانون سواء كان سماويا -الشريعة- أو دنيويا -القانون- الذي تضعه الجماعة بالشورى وهو من ثمرات الفطرة دينيا والطبيعة فلسفيا: وتلك هي رؤية الإسلام.
بوسعي الآن -بعد هذا التمهيد- أن أقدم المعنى العميق لـ”معاني الإنسانية” التي تفسد والتي ينبغي علاجها. ولا بد هنا من شرح كلمة “فساد” عند ابن خلدون. فهي ليست بالدلالة الخلقية وحدها كما نفهمها الآن بل لها هذا المعنى والمعنى الوجودي أي العدم بلغة أرسطو الذي يقابل بين الكون والفساد في التغير الجوهري.
“فساد معاني الإنسانية” عند ابن خلدون معنى خلقي ووجودي أي إن النخب التي تفسد فيها معاني الإنسانية ليست فاسدة خلقيا فحسب بل وجوديا. فوجودها يصبح مثله مثل العدم بمعنى أن كل ما يجري لديها ليس من فعلها بل من انفعالها وهي خاضعة تماما لمن يحركها وكأنها دمى خالية من الكثافة الوجودية والشعور بالعزة كأنها “أعجاز نخل خاوية”.
ولأورد التعريف النسقي لمعاني الإنسانية التي تفيد الرئاسة بالمعنى الذي شرحت استكمالا لنظرية ابن خلدون. فإن صلحت الصفات التي تدل على الرئاسة كانت دالة على الكون (الوجود) وإذا طلحت دلت على الفساد (العدم). وهي خمس صفات ترواح بين وجود الإنسان رئيسا بطبعه وبمقتضى الاستخلاف وعدمهما.
والصفات الخمس ليست صفات للإنسان بل هي صفات لأفعاله. وهي أن يكون مريدا بحق وأن يكون عالما بحق وأن يكون قادرا بحق وأن يكون حيا بحق وأن يكون موجودا بحق فيتخلص من أشباه الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. و”يكون” هنا تعني ما تعنيه المقابلة مع “يفسد” أي دلالتها الفلسفية في عصر ابن خلدون ومنها المقابلة بين الكون والفساد في نظرية التغير الأرسطية كما أسلفت (التغير الجوهري الأقصى فوق التغير الكمي والمكاني والكيفي).
والرئاسة التي بالطبع وبالاستخلاف فعل هذه صفاته ويمكن أن تكون موجودة أو مفقودة. فتكون الإرادة حرة او مضطرة ويكون العلم صادقا أو كاذبا وتكون القدرة خيرة أو شريرة وتكون الحياة حسنة أو قبيحة ويكون الوجود جليلا أو ذليلا. وبين الحدين فيها جميعا ما لا يتناهي من رتب بين الكون والفساد.
والحالة التي يصفها ابن خلدون بـ”فساد معاني الإنسانية” الناتج عن التربية والحكم العنيفين هما ما آل إليه وضع النخب العربية الحاكمة والدائرة في فلكها من طباليها ومبرري أفعالها في اللحظة التي تمثل حاليا وضعية الحرب الأهلية في دار الإسلام كلها وفي قلبها أو اقليمنا وهي حرب كونية.
فماذا أعني بوصفها “حربا كونية”؟ ما أعنيه هو أن مصير البشرية كلها هو الآن بصدد التحدد في دار الإسلام. وقد كان هذا التحديد انفعاليا قبل أن تبدأ ثورة الشعوب الإسلامية عامة وشعوب أقليمنا خاصة. لكنها أصبحت فعلية ضد عملاء من يسعى لمنع استئناف الإسلام دوره في تحرير البشرية من العبودية.
فالعولمة الحالية بخلاف ما يتوهم أغبى نخب في العالم أعني حداثيي العرب هي إطلاق العبودية وليست تحرير الإنسانية. فالإنسان لم يبق رئيسا لا بطبعه ولا بالاستخلاف الذي خلق له بل صار مجرد لولب في آلة شيطانية تسمى تهديم العالم ماديا والإنسان خلقيا. وذلك هو النقيض التام لرؤية الإسلام.
والإسلام اليوم يعيش لحظة مماثلة للحظة البداية. حرر البشرية بداية من الثيوقراطيا الناتجة عن تحريف الديني والانثروبوقراطيا الناتجة عن تحريف الفلسفي لأنه بين أصلهما العميق أو الأبيسيوقراطيا (دين العجل أي عبادة الذهب والخوار: الربا والكذب). ومعركته اليوم هي استئناف هذا التحرير وهي معركة مع عبدة العجل الذين يسيطرون على العالم بربا العملة (الاقتصاد الربوي) وبربا الكلمة (الإيديولوجيا أو الإعلام والملاهي الربويين).