أبو يعرب المرزوقي
أبعد شيء عني الدفاع عن العسكريين. لكني لا أفهم حصر الفساد فيهم ودون تمييز بين مقومي العكسر البشريين في بلاد العرب:
1. أشباه نخبة قائدة.
2. مع عامة جاهلة.
ولست بحاجة للكلام على التسليح والمخابرات التابعين من ألفهما إلى يائهما. ومعنى ذلك أن العسكر ليس منافيا للسيادة من حيث هو عسكر بل من حيث انتفاء مقومات العسكرية التي تحمي السيادة. فلا سيادة من دون جيش. لكن العسكر الذي تأليفه من جنس ما نرى في الجيوش العربية لا يختلف عن القوى السياسية العربية التي تسمى مدنية سواء كانت أحزابا أو قبائل لأنها هي بدورها لها نفس البنية. وهي في الغالب مافيات تابعة مثله؟
فما يسمى مثقفين خارج هذه المكونات -“قيادات” الأجهزة وبقية مكوناتها الشبعية- لا يفهمون كيف تعمل “المحميات” التي تسمى دولا وتستعمل العوام الأميين في أعمالها القذرة بتسخيرهم كأدوات مكتفين بالتنظير الأجوف والمفاضلة بين المدني والعسكري رغم الوحدة التكوينية التي تسيرها مافيات داخلية تابعة لمافيات دولية في حالتي الجيوش والقوى السياسية التي تسمى مدنية.
لذلك فساحصي الأدوات التي تعمل بها الدول عادة إذا كانت ذات سيادة وما هو كاريكاتور منها تعمل به “المحميات” التي يتوهم حكامها ونخبها أنها ذات سيادة وفيها الجميع مجرد أداة للحامي للاستبداد والفساد فيها بوصفهما المقومين الجوهريين لكل ما يجري فيها دون فرق بين المدني والعسكري.
فالدول ذات السيادة لها خمسة أجهزة اثنان للحماية الداخلية هي القضاء والأمن واثنان للحماية الخارجية هي الدبلوماسية والجيش. والخامس هو الاستعلام-الإعلام السياسي أو الجهاز العصبي للحمايتين والذي يمكن من العمل الحمائي على علم. وهذه الأجهزة تصبح في “المحميات” التي تسمى دولا وهي عديمة السيادة ليست في خدمة الجماعة بل في خدمة الحامي ومافياته فيها. فإذا فسد القضاء والأمن زالت الحماية الداخلية فأصبحب العلاقات بين المواطنين خارج القانون. وإذا فسدت الدبلوماسية والدفاع زالت الحماية الخارجية وأصبح الوطن مستباحا. ويبدأ الفسادان باختراق الاستعلام والإعلام السياسيين أو المخابرات. وهذه حال كل المحميات التي تسمى دولا عربية.
وليكن مثالنا مستمدا من “المحميات العربية” التابعة لإسرائيل وأمريكا أو من “المحميات العربية” التابعة لإيران وروسيا. فهل العسكر وحده هو التابع أم إن كل هذه الوظائف الخمسة التي من المفروض أن تكون لحماية الجماعة قد اخترقت وصارت في رعاية مصالح الحماة وعملاءهم في نوعي المحميات العربية؟
أما النخب التي تنظر من دون أن تأخذ هذه المحددات الجوهرية لما يجري فهي إما تبحث عن موقع لها بين النوعين ولم تتموقع بعد أو هي لا تفهم معنى التحليل المبني على معرفة نظام التعليل لمجريات الأحداث التي لا يمكن تغييرها بالتعاويذ بل بمعرفة مسارب الاختراق علة كون ذلك يكون كذلك وهو مطلوب التحليل الهادف للتعليل العلمي.
لكن الأمر ليته يتوقف عند هذا الحد من الاختراق. فالاختراق يتجاوز أجهزة الحماية الداخلية والخارجية الخمسة التي ذكرت ويتعداها إلى أصل كل الداء وهو اختراق أجهزة الرعاية التكوينية والتموينية. وهي كذلك خمسة: فالرعاية التكوينية هي 1-التربية و2-تقسيم العمل في الجماعة. ويكون اختراقها بـاختراق برامج التربية ومفاصل التعيين في العمل.
ويكفي لذلك اختراق الإدارة السياسية والإدارة النقابية والقوى السياسية سواء كانت أحزابا أو قبائل. وكلنا يعلم أن ذلك حاصل في نوعي المحميات العربية وخاصة بعد أن أصبح كل شيئا مفضوحا بعد الربيع العربي وبروز الثورتين المضادتين العربية والإيرانية. لكن اختراق الرعاية في بعد ثان هـو بدروه مضاعف وهو اختراق الانتاج الاقتصادي واختراق الانتاج الثقافي. وفي ذلك لا يكاد الاختراق يغفل عنه البصر حتى لفاقد البصيرة: فهما يشبهان بحيرة آسنة في مجتمعاتنا العربية حيث بات حاميها حراميها كما في حالة توزيع المخدرات من قبل كبار المسؤولين في المحميات.
ومثلما أن الحماية الداخلية والخارجية لها جهاز عصبي هو الاستعلام-الإعلام السياسي وبه يبدأ الاختراق حتى يصبح هو أداة الحامي في تسيير كل الأمور فإن الرعاية التكوينية والتموينية لها جهاز عصبي هو البحث-الإعلام العلمي وبه يتم اختراق الأرواح لان الأول يخترق الأبدان. فيكتمل الاستعبادان والفسادان المادي والروحي.
ذانك هما الداءان اللذان لا ينبغي أن تغطي عنهما المقابلة حكم عسكري – حكم مدني. فبلاد العرب تنقسم إلى النوعين. لكن النتائج واحدة. فلا فرق بين دول الخليج مثلا وفيها الحكم ليس عسكريا ودول الهلال وفيها الحكم عسكري وفي المغرب بعض دوله حكمها عسكري وبعضها الآخر حكمها مدني. لكنها جميعا تتميز بالتبعية المافيوزية.
فإذا كانت هذه الأجهزة العشرة مخترقة من المافيات الخارجية التي تحمي المافيات الداخلية -وهنا أتلكم على تجربة شخصية عشتها لما صاحبت رئيس الحكومة لاجتماع مع أرباب العمل في فرنسا بحضور وكلائهم التونسيين- فإن الداء العام هو سرطان في مرحلة المتاستاز ولا فرق بين عسكري ومدني إلا في السطحي من الشعارات.
وما وضعت نظرية مقومات الدول الجهازية التي تعمل بها لتؤدي الوظائف المشروطة في سيادة الجماعة وحرية الأفراد إلا بهدف تشخيص الداء ومحاولة وصف الدواء. ذلك أن دور الحكومات يأتي بعد تحديد أدوات عملها وهي الأجهزة العشرة التي أحصيت والتي كلها مسرطنة في بلاد العرب دون استثناء.
فإذا كنا حقا نبحث عن تشخيص صادق يكون منطلقا للعلاج المفيد فلا بد من أن نحدد مكامن الداء لنفهم علة تمكن غالب دول آسيا إسلامية كانت أو غيرها من السيطرة على هذه الأمراض والشروع في النهوض الفعلي وبقي العرب الذين بدأوا النهضة معهم أو حتى قبلهم يراوحون مكانهم دون تقدم حقيقي يذكر رغم ما لديهم من إمكانات مادية وروحية لا تكاد توجد أمة في التاريخ لها ما لها بفضل ما ورثته منهما عن ثورة الإسلام.
فهبنا فرضنا أن الله قد من على بلد عربي أو غير عربي هذه حال أجهزة السيادة فيه بحكومة صالحة فهل يمكن توقع نجاحها في العلاج؟ أنا شخصيا أشك. ذلك أن أي حكومة لا يتجاوز دورها استعمال الموجود من الأدوات المتوفرة والتخطيط لإصلاح المعطوب منها بما تجده من الأقل عطبا فيها. لكن أليس العطب قد بلغ الميتاستاز فانتشر الداء في كل خلايا البدن؟
وسابدأ بعطب الجيوش التي تحكم مستثنيا تونس التي لم يحكمها جيشها إلى حد الآن بل ما حكمها هو الداخلية وخاصة في عهد ابن علي. فالعطب في الجيوش مثالها الجيش المصري خاصة. لما حاول بعض قياداته تدارك هزيمة 67 حصل تحسن كيفي كان يمكن أن يتم البناء عليه للانتقال من الهزيمة البنيوية الى النصر البنيوي.
فماذا حدث؟ اتفاقية منتجع داود مثلت تحويل بداية النصر إلى الهزيمة النهائية وهي اختراق المخابرات الأمريكي والإسرائيلي الذي وصل إلى نخاع الجيش المصري وهو مضاعف. أولا جعل الاقل مستوى تقني وخلقي قائدا والعودة إلى تجنيد الأميين من أبناء الفلاحين والشعب المحروم رزقا روحيا وماديا.
فأصبح الجيش أداة بيد المافية التي نصبت عليه لخدمة المافية الخارجية التي تحميها من أي إمكانية للإصلاح الذي كان يمكن أن يحقق المعجزات بعد أن خرج العرب من روح الهزيمة البنيوية إلى بداية الشعور بالقدرة على فعل ما كان يعتبر مستحيلا. وهذا ما نراه يعمم حاليا على بقية جيوش العرب. وقد يكون المثال الثاني الأبرز هو ما فعله بريمر والسيستاني بجيش العراق.
أما اعتبار الحل في الخيار بين خليتين متقابلتين تقابلا غير محدد الطبيعة -دولة عسكرية ودولة مدنية- فلا معنى له. وليكن مثالنا ذراعي التدخل في الشان العربي: هل إسرائيل دولة مدنية أم عسكرية؟ وهل إيران دولة مدنية أم مليشياوية؟ وهل دولة هتلر كانت مدنية أم مليشياوية؟
لماذا نجحت اليابان قبل الحربين العالميتين وقد كانت عسكرية ونجح هتلر بعد الحرب الأولى وكانت دولته مليشياوية ونجح السوفيات وكانت دولتهم عسكرية ونجحت الصين ودولتها عسكرية وتنجح إسرائيل وهي عسكر ذو دولة إلخ.. ولم ينجح أي جيش عربي في تحقيق أي نهضة مادية كانت أو فكرية أو روحية أو حتى تماسكا لكيان متين يسمى دولة؟
من يعتقد صادقا أن السودان لو صارت مدنية بالمعنى الموجود في ديموقراطيات الغرب -وهو حلم مستحيل أو على الأقل عسير التحقيق في وضع ما وصفت- وتفكك الجيس لن يتفكك هو بدروه بحسب الحروب الأهلية الجارية على أطرافه؟ ومن يعتقد صادقا أن الجزائر لو صارت مدنية بهذا المعنى لن تتفكك لان ظرفها ليس أفضل من السودان.
ولست بهذا أدافع عن الدولة العسكرية بل أركز على بيان هشاشة هذه الدول التي لم يبق موحدا لها إلا شوكة الجيش مهما قلنا فيه في غياب مفهوم الشرعية الجماعية التي هي أساس معنى الدولة. ما أتوقعه هو أن السودان قد ينفجر فيصبح أربع دول بعد الاولى التي خرجت منه أعني جنوبه. وهو ما أخشاه على الجزائر.
فما حدث في العراق وما هو بصدد الحدوث في سوريا وفي اليمن يجعلني أميل إلى أن هذه المقابلات السطحية والشعارية هي في النهاية الطريق السريعة لتحقيق سايكس بيكو الثانية والعامة على اقليمنا وليس على المشرق منه فحسب تزيد بلادنا تفتيتا على تفيت سايكس بيكو الأولى. لو كانت القوى السياسة واعية بهذا لما استثنى بعضها البعض ولكانت متحدة.
فساد القوى السياسية واستثناء بعضها البعض هو الداء الحقيقي وليس المقابلة حكم الجيس والحكم المدني. ذلك أن القوة السياسية التي تسثني غيرها هي بدروها استبداد وهي لا تستطيع ذلك من دون جيش أو مليشيا تتحكم بها في رقاب من تستثنيهم. فتكون الجيوش أو المليشيات دائما أدوات لمافيات وليست التي تتصرف في الأمر إلا ظاهرا.
لست أدافع عن الجيش لكني أعتبره في غياب وحدة القوى السياسية على شروط قوة الجماعة التي لا تتنافى مع الاختلاف في الاجتهاد السياسي لكنها تتنافى مع الاستثناء المتبادل بينها خط الدفاع الأخير مهما قلنا فيه لمنع سايكس بيكو ثانية. ولهذه العلة نلاحظ أن سعي الاستعمار لضرب وحدة تركيا تستهدفها بالانقلاب.
وعندما فشلوا في الانقلاب في العراق ماذا فعلوا؟ كان الغزو. ونفس الشيء في سوريا ونفس الشيء في مصر إذ نجح الانقلاب. ولا أستبعد أن يعلنوا الحرب على تركيا إذا فشلت محاولات الفوضى الإرهابية من حولها ومحاولة استعمال علمانييها وجوليانييها للتخريب الداخلي يتمويل من العملاء محاربي الإسلام.
ذلك ما يدفعني للتحليلات التي تبدو شاذة بالقياس إلى العموميات التي نسمعها ممن يعلقون على المقابلة جيش مدنية. الخراب موجود في القوى المدنية وجوده في القوى العسكرية بسبب التخلف والاختراق. وهو ما حاولت وصفه باقصى ما يمكن من الدقة اعتمادا على مكونات الدولة والجهازية التي من دونها لا وجود لدولة ذات سيادة أصلا.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.