من آفات "الوصول المتأخّر"
زهير إسماعيل
يشير ريجيس دوبري في “نقد العقل السياسي” إلى أنّٰه إذا خامر ذهنك “الدين” وأنت تتحدّٰث عن “السياسة” و تستمع إلى كلام في السياسة، في الستينيات فهذا يعني أنّٰك “وصلت باكرا جدّا”. وهو يقصد بهذا إلى الانتباه المبكّٰر إلى “البعد الديني” في الخطاب السياسي الذي يدّٰعي دائما استقلاله عنه وإذا خامرتك “السياسة” وأنت تستمع إلى “خطاب ديني” اليوم فهذا يعني أنّك وصلتَ متأخّٰرا جدّا، وهو يقصد بهذا الانتباه المتأخّر جدّٰا إلى التخلف السياسي والاحتفاء بالقديم المستَهلك وكأنه جديد مختَرع.
هذا الصنف الثاني يغلب اليوم على ما يُعرف عندنا بنخب الفكر والسياسة، وهو أكثر استفحالا في ما يسمى بالنخبة العلمانية والحداثيّة. ولكنه يثير الشفقة في حضوره عند فئات عُرفت بانتمائها إلى إيديولوجيات شمولية مغلقة كالماركسية فكانت تتعامل مع الظواهر السياسية ذات المرجعيّة الإسلامية بل ومع “المتن الإسلامي” نفسه، بسطحية ناتجة عن هذا “الوصول المتأخّٰر جدّٰا” زائد أثر “الانغلاق الإيديولوجي” والضعف الفكري الفادح وهو نتيجة عن الخوف من المعرفة والعلم وضعف العلاقة بالكتاب.
والاستثناء في هذا قليل إن لم يكن غائبا، وعلى سبيل المثال لم يعرف سياقنا التونسي ترجمة أو اجتهادا محليا ذا بال في “فكر المجاميع الماركسيّة” في المسألة الاجتماعية (شبه الشبه بقيت نكتة، فهي لا تخرج عن القياس الفاسد)، أو المسألة الديمقراطية، أو الوطنية، أو العربية وقضايا الصراع الدولي، وحتى من تسموا بالوطنيين الديمقراطيين لم يثبتوا إلى اليوم هذين البعدين في اسمهم وفي ممارساتهم في الحركة الطلابيّة والمشهد السياسي بعد الثورة، وهم مدعوون إلى إثبات ديمقراطيتهم ووطنيتهم. والمسكوت عنه في هذا الطلب هو ان إثباتهم هذين البعدين في عنوانها السياسي (الديمقراطية والوطنيّة) يخرجهم من المرجعيّة الماركسيّة.
هؤلاء يمثلون النوع الأكثر تهافتا بين “فئات الوصول المتأخّٰر جدا”، لذلك هربوا لاجئين تحت سقف الحداثة والعلمانية والديمقراطية ولكن تجربتهم مع نظام بن علي ( مازالوا يجرّونها خلفهم) لم تخرجهم عن دور “لجماعة الوظيفيّة و”الأمن الإيديولوجي” للنظام (لجان تفكير التجمع للمتصهين بن علي باش ما نقولوش “بوليسه السياسي”.
هذه الإيديولوجيات الشمولية والأنساق المغلقة لا تتّسع فلسفتها ولا منهجها لقيم العلمانية والديمقراطية وإدارة الاختلاف لأنها تؤمن بالصراع.
وحتى الأحزاب “الشيوعية الأوروبية” خضعت في إطار اللبرلة الرأسمالية المكتسحة لأوروبا في ستينيات القرن الماضي وسبعينيات إلى الخضوع مكرهة إلى “إدارة الاختلاف” (أي التسليم بالصراع الديمقراطي) ولم تتمكن من “تحيين النص لماركسي” وتبيئته وترجمته إلى “الثقافة الديمقراطية”، لأنّ كل عملية ترجمة حقيقية هي خروج آلي عن مبادئ النصّ المؤسس.
ومن نجح في الترجمة من الأسماء المعروفة في الفكر السياسي والفلسفي الأوروربي كفّٰ لحظة نجاحه عن أن يكون ماركسيا. فما بالك بالذر الجديد الّي يتناڤز في معمعان الفكر والايديولوحيا.
وداخل فئات “الوصول المتأخّر” نجد الصنف الأردأ وهو خليط من مجاميع ماركسية وتجمعية ودستورية وشعب مهنية ونقابية (بالفكر: نقابات الاتحاد، والساعد: النقابات الأمنية) تغلب عليه الضحالة وينتسب اليوم، لا حشمة لا جعرة، إلى العلمانية والحداثة والديمقراطية. للتغطية على الكسل والضعف والضحالة، واختصار العركة ولو بانتحال ما ليس له وفيه.
الانتساب إلى المرجعية الحداثية والعلمانية والكلام من خلالهما (وليس باسمهما) لا يحقّ الا لمن تشرّب الحداثة والعلمانية من مظانها مع الاستئناس بالخصوصية، وهولاء أفراد قليلون وهم أكثر الخلق اعتدالا تواضعا وسماحة وقبولًاب المختلف، وإن شطّ وجار، لأنهم “وصلوا باكرا”.
يذكّرني هؤلاء في ضحالتهم بخبث التوصيف في بعض نشرات الأخبار في فرانس 2 وإذاعة الـBBC وبعض وسائل الاعلام الغربية أيام مقارعة نظام الاستبداد بداية من التسعينيات بتونس واعتباره مواجهة بين “التيار العلماني الحداثي” الذي يمثله بن علي ونظامه و”التيار الديني” الذي تمثّله النهضة. ولو قيل هذا في مواجهات الثمانينيات بين بورقيبة والإسلاميين لكان له بعض مصداقية.
لا ينتج عن “الوصول المتأخّر” إلاّ سلفية، ويستوي في هذا الوصول المتأخّر من طريق الدين أو طريق الإيديولوجيا، وهذا ملاحظ اليوم في مشهدنا من خلال “منوال الدعوشة” أكثر الأشياء قسمة بين من “وصلوا متأخّرين جدا” رغم اختلاف سباهم في الظاهر. وآفات “الوصول المتأخّٰر” وتداعياتها تجعل منه في حقيقة الأمر “لا وصول”.