علي المسعودي
بدل أن تنمو كشجرة سنديان دائمة الخضرة، يرتفع جذعها إلى عنان السماء، وتتآلف أغصانها وإن تعارضت وتشابكت، تبدو الأحزاب التونسية مثل عمود خرساني باسمنت مغشوش، يولد واقفا وشامخا ثم سرعان ما تعتريه الشقوق.
لماذا تتشقق أحزابنا كأعمدة خرسانية فاسدة، بدل النمو كشجرة وارفة ؟ لماذا تسقط أجزاء منها مع كل انتخابات، حتى تتهاوى وتندثر؟
السلوك الطبيعي للحزب الذي يروم السلطة في بلد ديموقراطي هو أن يدير خلافاته بشكل ديموقراطي وبما يؤمن تجديد دمائه واتساع إشعاعه.
أما أحزابنا، فقد أسست نظاما ديموقراطيا ثم فشلت في توطينه في بيوتها… تدافع عن الرأي الآخر وترفض الاعتراف بهذا الحق لعضو حزبي في الجانب الآخر !.
الأزمة بالأساس هي أزمة إيمان بالمسألة الديموقراطية ذاتها.. ولا يغرنك كثرة التشدق بهذا اللفظ، والنزعة الاحتكارية له في كل حفل.. فأكثر العائلات السياسية تشظيا هي تلك التي تنسب نفسها للعائلة الديموقراطية، والتي يبدو من خطابها وكأنها بُعثت من خرائب أثينا لتحفظ للشعب حق حكم نفسه بنفسه..
ولكنها تعجز حتى عن إدارة الاختلاف بين أفراد الحزب، فكيف بين أفراد الشعب ؟
إن فاقد الشيء لا يعطيه، لا لنفسه ولا لغيره.
وإذا كانت الديموقراطية نظرية في إدارة الشأن العام بعدالة ومرونة، سنفهم لماذا تصاب الأحزاب سريعا بالشقوق.. فالمحرك الذي يدور بدون زيت ستتآكل دواليبه ويتعالى ضجيجه حتى يتوقف في منتصف الطريق.
•••
سأدلي بدلوي في بئر السياسة بشكل صريح.
أعتقد أن الجبهة الشعبية لم تكن يوما جزءا من اليسار حتى في أكثر معانيه ميوعة. لقد كان بعض خصومها أقرب إلى اليسار… والحسين بن علي، وكانت الجبهة بعد أن غمست أصابعها في موائد باردو الحقيقية والرمزية أقرب إلى أشعب، وإلى بلاط معاوية وحاشية الحجاج بن يوسف الثقفي.
وكان اصطفافها الصريح مع أشد رموز نظامنا الرسمي العربي عطشا للدماء، دليلا على سلوك يميني يخفي كل قبحه تحت جبة يسارية فاضحة.
إن ادعاء الشرف مع ممارسة البغاء السري من أكثر الحوادث المثيرة للاشمئزاز في ميثاق أخلاق اليسار والسياسة.
•••
اليسار الذي لم يقتنع بعد بأن الحرية الفردية هي قنطرة الحريات الجماعية هو يسار لن ينتج إلا زعيما يتربص بمقعده زعيم، واستبدادا يؤبد حالة الظلم والاستعباد.
واليسار الذي مازال أسيرا لخطاب الستينات، ومازال يمجّد حكم الضباط وكل مشير أو عقيد هو يسار رجعي سلفي، وفي جوهره انقلابي.
والجبهة الشعبية من خلالها سلوكها الفصامي منذ تشكلها كانت للأسف، مجرد قوة رجعية في قالب ثوري، واستنساخا لتاريخ تخلفنا العربي ملفوفا بخطاب نهضوي عفا عليه الزمن.
•••
اليسار الحقيقي لم يولد بعد.
اليسار المنسجم مع نفسه وبيئته ومع العصر.
وقواعده الطبيعية اليوم أكثرها في جهة اليمين.
إن صورة مرشح الجبهة منذ سنوات والذي تبنّته شركات الاشهار، فبدا وكأنه يعد بتوفير النسكافيه مجانا للفقير والغني، يعجز عن رسمها الساخر حتى ناجي العلي.
وإن “خالتي مباركة” وقفّتها قد تؤمن لك مائتي ألف صوت، ولكنها لا تستطيع أن تمهد لك طريق الحكم قبل أن يدركها الموت.