أمومة وأمومة مضادة

ليلى حاج عمر

يحدث أن يهبنا أبناؤنا أمومتهم. أمومة فتية ناضجة ملأى بروح العطاء والمسؤولية. لم يكفّ ابنائي منذ أن بلغوا سنّ المسؤولية عن مطالبتي بأن أعتني جيّدا بنفسي وبأن أمرّ إلى تحقيق أحلامي الخاصّة. حلم الكتابة خاصّة. كانوا يقولون لي بأنّي تركت كلّ شيء من أجلهم لمدّة طويلة وتفرّغت لهم طوال سنوات طفولتهم، وأنّه عليّ الآن، وقد كبروا، أن أتدارك ما فاتني.
وكأمّ مسؤولة وحكيمة يقودونني إلى جنّتي: جنّة الكتابة. ويراقبون خطواتي وعثراتي كطفلة تتعلّم المشي. في رواية سوبرنوفا عربية كان ابني يتابع قراءاتي عن الظاهرة الفيزيائية التي وظفتها ويسألني بعض الأسئلة للاطمئنان على أنّي قد فهمتها جيّدا. تماما كما كنت أفعل له وهو طفل. ويطالبني بالحرص على الدقّة في فهم وتوظيف الظاهرة. ويقول لي: يا ماما هل نسيت عبارتك الشهيرة وأنت تربّيننا ونحن أطفال: لا أحب عملا متعجّلا. أحبّ الدقّة. إذن الدقّة يا ماما. ولا ينسى مع أخته أن يبتهجا لكلّ نجاح صغير أحقّقه وأن يقولا لي: فخوران بك يا ماما. وهي العبارة التي أردّدها عليهما منذ طفولتهما إثر كلّ نجاح وتفوّق يحقّقاه مهما كان صغيرا: فخورة بكما حبيبا قلبي. ولا ينسيا أيضا أن يقفا معي إثر كلّ إخفاق. وما أكثر إخفاقاتي وخيباتي. يمسحا دمعي ويطمئناني بأنّهما يحبّاني دائما، رغم أني أخيّب ظنّهما أحيانا. تماما كما كنت أفعل معهما وهما صغيران.
إنّها الأمومة المضادّة التي يغمرانني بها. أمومة دافئة وعظيمة. أمومة خافقة وشاهقة.
في أمومتهما لا يكفّان عن توجيه ملاحظات لي: ماما أخطأت حين اتّخذت هذا الموقف. لم تكوني متسامحة كما ينبغي. ماما تنقصك التجربة لتفهمي البشر. إنهم غير ما تعتقدين. ماما كفي عن تحميل نفسك أكثر ممّا تتحمّل. ستتعبين. ماما درسك اليوم لم يكن كما ينبغي. تكلّمت كثيرا. لم صرت تتكلّمين كالكبار ؟ مازلت صغيرة. لا تضعي زينة على وجهك بلا ماكياج أفضل (ابني) . لباسك اليوم ليس أنيقا سأختار لك بنفسي (ابنتي). لا تضعي صورنا إلا باذننا لا نحب الصور على الفايسبوك. تضعين صورا كثيرة من الأفضل تجنّب ذلك. كيف سمحت بذلك التعليق على صفحتك؟ بلوكيه. أنت تبذّرين كثيرا من الأحسن أن أمسك أنا بالميزانية. ماما كفي عن الكسل وتعلّمي كيف تحلّين مشاكل الحاسوب والانترنيت بمفردك. أنت تعولين عليّ كثيرا. أنت تبكين بسهولة هل كنت تعتقدين أنّ الحياة سهلة؟ إنّها صعبة صعبة يا ماما. ماما لم تحزنين لكلّ ما يحدث في العالم هل تعتقدين أنّك ستحلّين بذلك مشاكل العالم؟
وهمٌ أن نعتقد أنّنا نعطي أكثر ممّا يعطوننا. إنّهم يهبوننا كنه أمومتنا بأمومة ألذّ وأعذب، فنرى أنفسنا في مرآة أرواحهم، تلك التي رسمناها منذ الطفولة الأولى. في أمومتهم نرى أمومتنا. وندرك أنّ كلّ العالم محكوم بفكرة الأمّ: معنى العالم وروحه.

Exit mobile version